كتاب المذاهب الأدبية في الشعر الحديث لجنوب المملكة العربية السعودية

فالسنوسي هنا ساخر أكثر منه هجَّاء، وهجاؤه ليس على النهج التقليدي من التصريح بالمهجوِّ حتى يلصق العار باسمه وشخصه، ولم يتخذ ألفاظ السباب والقبح والفحش مادة لتصويره الأدبي، وإذا اضطر إلى ذلك اكتفى بالتكنية والرمز والإيحاء إلى ما يريد في لفظٍ عفّ، وتعبير غير مسفّ، يرتفع السنوسي عن ذكره فيقول مثلًا: "فكان ما كان مما لست أذكره".
وكذلك فالشاعر أدار حوارًا في الهجاء بينه وبين شيخ صاحب تجربة وخبرة في السخر والفكاهة؛ ليفيض شعره بالحركة والحيوية، ويكون أقدر على تصوير السخر وأوقع في النفس.
وكذلك جعل الشاعر الهجاء في قضية عامة، طرحت على العرف السائد في عادات قومه وتقاليدهم، فهو يهجو القضية ذاتها، ولا يهبط إلى هجاء شخص بعينه ولا إنسان باسمه، وإنما يهجو صورة هذا التغير، ويسخر من ذلك التطور الذي خرج على عادات قومه وتقاليدهم.
والسخر أقوى من الهجاء في الشعر، بل هو المرحلة المهذبة من مراحل تطور الهجاء في أدبنا العربي؛ لأن الهجاء شتم وإقذاع للتشفي وردع الخصم بألفاظه المعروفة بلا حجة ولا تعليل، فالمهجو هكذا أمره من الأوصاف الخبيثة مما لا يحتاج إلى برهان.
أمَّا السخر فهو هجاء يقوم على المقدمات والأسباب، ويستقر في النفس عن تعليل وتدليل، ويأخذ بالقلب والعقل معًا عن حجة واقتناع.
وابن الرومي كان يمثل مرحلة التطور في الهجاء العربي؛ حيث تطور الهجاء على يديه في بعض القصائد والمقطوعات إلى السخر، وإن ابن الرومي قد برع في الهجاء المكشوف، والبذيء في قصائد أخرى، لكنه يعد أول شعراء العرب الذين نقلوا الهجاء إلى طور آخر أسمى منه وهو "السخر"، وشعره الساخر اشتهر بين الأدباء والنقاد ومنه قوله في البخيل:
يقتر عيسى على نفسه ... وليس بباق ولا خالد
فلو يستطيع لتقتيره ... تنفس من منخر واحد
ولقد ميّزت بين الهجاء والسخر والضحك والعبث واللعب بصورة واضحة، حتى لا أضطر إلى التكرار1.
عاشرا: الأناشيد
للسنوسي مهارته الشعرية في الأوزان الخفيفة العذبة السائرة، والتوقيعات الموسيقية، التي تحمل المعاني الإنسانية والوطنية، والإسلامية، فيتغنى بها أبناء الوطن لخفتها وعذوبتها، وما تحمل
__________
1 البناء الفني للصورة الأدبية في شعر ابن الرومي: للمؤلف.

الصفحة 126