كتاب المذاهب الأدبية في الشعر الحديث لجنوب المملكة العربية السعودية

اندفاعًا كالعقاب، وتطفو فوق الذرى كالحباب، وإذا بدارات أبها كاللآليء المنثورة في الشعاب ... صورة أدبية بديعة للطائرة، وهي تحمحم في سماء أبها، وتطوي السحب طيًّا، وهي من الصور الحديثة والجديدة في شعرنا العربي الحديث، يقول السنوسي في قصيدة "تحية إلى أبها":
تنورتها من وراء السحاب ... وبي وله نحوها وانجذاب
وقد طار في نحوها طائر ... طوى الأفق طي السجل الكتاب
تهادى وحمحم ثم استوى ... على الجو منطلقًا كالعقاب
وحرم يلوي الذرى الشامخات ... وينساب من فوقها كالحباب
فلاحت لعيني داراتها ... لآليء منثورة في الشعاب
تألقن والليل وحف الدجى ... وأشرقن والصبح كث الضباب1
ومن الصور البديعة التي اخترعها خيال السنوسي في شعر عسير من الأدب السعودي صورة "المنظار الكاشف":
قالها لي وهو يستزيد المرايا ... شكل نظارتيك حلو الزوايا
قلت لكنها تريني قشورًا ... حين أرنو ولا تريني الخفايا
لم؟ لم يخترع لنا العلم منظارا ... يرينا ماذا تسر الحشايا
قال: لو كان ذاك أقفرت الدنيا ... ولم تأتلف عليها البرايا
هبه. قد كان. لا. ولن ... ترني بعد إذا ما كشفت عنيا2
وهي من الصور الأدبية الكلية التي تعبر عن لقطة واحدة من مشاهد الحياة بعمق ودقة، مع أنَّها تضم بين أجزائها صورًا جزئية لا تقوم بذاتها، ولكن يحتاج القارئ في فهمها أن تكون متلاحمة مع ما قبلها وما بعدها، لتعطي تصويرًا كليًّا دقيقًا عن المنظار المكبَّر، وما يوحي بالطلاء الكاذب، حين تصور الأشياء على غير ما تراه العين المجردة القوية، حتى تنقل الشيء المرئي بدقة دون خداع وتزييف للحقائق.
ويوم أن يكون للمنظار الكاشف دور في إطهار ما يخفيه الإنسان ستكون نهاية التآلف والتواد؛ لأن البشر لا يخلو من عوارض النقصان، الذي هو من طبيعة الإنسانية، عند ذلك لا تجد صاحبًا ولا صديقًا ولا معينًا ولا أخًا.
__________
1 أزاهير: 74.
2 الينابيع: 35.

الصفحة 143