كتاب المذاهب الأدبية في الشعر الحديث لجنوب المملكة العربية السعودية

صورة أدبية رائعة نبعت من تجارب الشاعر في حياته ومن واقع عصره الذي يعيشه بوجدانه ومشاعره، وجدان الشاعر ومشاعر الأدب، عاش السنوسي ردحًا من حياته مديرًا لشركة كهرباء جازان، تصدّع أذنيه حركة الماكينات المولدة للكهرباء بأصواتها القاسية العنيفة، وأسلاكها المعقدة الكثيفة، فيكاد الإنسان أن يفقد نفسه وسط هذا الزحام الصاخب، ولا ترتد إليه حتى يعود إلى سحر الطبيعة والحياة الفطرية التي نأت بعيدًا عن تعقد الإنسان باسم الحضارة والتقدم.
هذا المقطع "الميكانيكي" الصغير المعقد، انتقل إلى العالم الصاخب، والدنيا العنيفة، فأصيبت هي الأخرى "بميكانيكية" مخيفة، كهربت سلوكها سلوك الإنسان، فأحرقت القيم والمبادئ الإنسانية في الحياة لا الأسلاك، فتعقد فيها كل شيء، حتى الأكل والشرب والتحية، لهذا أصبح القلب في وحشة والنفس في حيرة من هذه الحضارة التعيسة، فلا قلب فيها ينبض بالحياة، ولا مكان فيه للأمن والسلام.
صورة بديعة جديدة نبعت من واقع عصر الشاعر وحياته، وتجربته مع الحياة.. إنها صورة قائمة حزينة تعبِّر عن وحشة القلب، وغربته في هذا الزمان.
وعناصر الصورة قد تلاحمت من هذا المقام، فالحركة بطيئة من كثرة المدات في الكلمات "حروف اللبن" وألوانها قائمة، فالصخب والعنف والميكانيكية والخوف والكهربة والحرق، والتعقيد والحيرة والفلسفة والتعاسة.. كلها توحي باللون القائم، والضباب المحير، والتيه الضليل. وطعم ذلك كله مر وعلقم، ورائحته تشمئز منه النفوس ذات عادم يخنق النفس.
تلك عناصر التصوير الأدبي من حركة، وطعم، ورائحة في هذه الصورة الأدبية البكر الرائعة.
وفي قصيدة "الظل والضوء" يقول السنوسي1:خرافة كل مفتون بها فان
أعيش في الظلِّ أو في الضوء سيان ... خرافة كل مفتون بها فإن
الظل والضوء ألوان وأصبغة ... لا باهت ثابت منها ولا قاني
فهم ووهم ولا شيء خلافهما ... الوهم من مارج والفهم روحاني
فإن ركبت جناحا وانطلقت به ... محلقًا غير آفاق وألوان
فلا تظنن أن الأرض قد ذهبت ... أو أنها خليت من كل إنسان
__________
1 نفحات الجنوب: 68/ 70.

الصفحة 145