كتاب المذاهب الأدبية في الشعر الحديث لجنوب المملكة العربية السعودية

الأرض ثابتة والنفس ذاهبة ... وأنت منها وفيها عائد ثاني
ضحكت من زمني هزؤًا وسخرية ... وربما ضحك المجني للجاني
ترف شم الرواسي نضرة وندى ... وملء أعماقها نيران وبركان
وتغضب القمة القعساء إن سقطت ... فيها النسور وأضحت وكر غربان
فعش حياتك مرفوع الجبين ولا ... تكن عبدها في أي ميزان
التقسيم العقلي يفسد الشعر، وينقله من عالمه إلى عالم العلم والمنطق، والتدليل الصريح على الحقيقة في الشعر يتناقض مع منهجه لأمرين لا ثالث لهما، هما، فهم أي "عقل وحق"، ووهم أي "وسوسة وباطل"، فالأول مصدر الدين والروح، والثاني يتفجر من مارج من نار.
فالعجيب ليس في هذا التقسيم العقلي، ولكنه في الشاعر ذاته، كيف نبضت صورته الشعرية هنا بمشاعره، واصطبغت بوجدانه المحموم، وسرى الروتين العقلي فيها، كما يسري النسيم على الطل والندى والشذى، فيتضوع الجو أريجًا رقيقًا كرقة مشاعره في هذه الصورة الشعرية البديعة.
كما نجد إبداع السنوسي في تصوير التناقض على نحو غير مألوف ومتعارف، فيصور الإنسان الضعيف المغلوب على أمره، المهزوم من دهره، بصورة القوي المنتصر الذي لا يأبه لأحداثه، فيضحك وهو الضعيف المجني عليه من الدهر، وهو القوي الجاني استهزاء وسخرية.
وكذلك يصور هذا التناقض بصورة الجبل الذي ازدهى بالخضرة وتوفر بالنضرة، وتلطف بالماء والندى، ولكنه في باطنه يتفجر لهيبًا وبركانًا، ويندلع موتًا ونيرانًا.
وكذلك تغضب الشوامخ، موطن النسور ملوك الطيور، حين يعشش في جنباتها الغربان، وبين أوكارها الخسيس من الطيور؛ لأن شموخها يناجي شوامخ الطيور، ويأبى في جنباته سواقطها، التي تجد السكن والأمن في أوكاره.
صورة أدبية رائعة تفيض بعناصر التصوير بما يتناسب مع الظل، وهو "الباطل والفساد والشيطان والضلال"، وما يتلاءم مع الضوء، وهو "الحق والعقل والدين والخير"، فيمنح الشاعر صوره الأدبيه عناصرها الشعرية بما ينسجم مع الظل أو الضوء: فالوهم نار، لونها أحمر حارق، وريحها سموم لافح، وطعمها لاذع يكوي، والفهم روحاني، لونه لطيف، وريحه نسيم عليل، وطعمه حلو كحلاوة الإيمان، والوهو أيضًا كالبركان في أعماق الجبال، والبركان نار ولهيب، لها لونها وطعمها وريحها كما سبق، والفهم كذلك كالنضرة والخضرة والماء في شم الرواسي، لونها أخضر، وطعمها لذيذ وممتع، ورائحتها طيبة زكية، وحركتها تتماوج مع النسيم في الصباح، وتتعانق مع الرياح في النهار والليل.

الصفحة 146