كتاب المذاهب الأدبية في الشعر الحديث لجنوب المملكة العربية السعودية

في صورة حيّة نابضة، ينسجم فيها الوشي المنساب مع الألوان، ويتجاوب فيها اللحن المتماوج مع موجات الهواء، فيتراقص معه القصيد، ويختال فيه النشيد، فيستبد بالقلوب، ويشنف الآذان، فيعشقه المستمع؛ ليقع في غرامه لا في غرام وحيد، ويصور ابن الرومي الغناء أيضًا في صورة أخرى فيقول:
كل طفل يدعى بأسماء شتى ... بين عود ومزهر وكران
ذات صوت تهزه كيف شاءت ... مثل ما هزت الصبا غصن بان
يتثنى فينفض الطل عنه ... في تثنيه مثل حب الجمان
صيغ من طبع صوتها كل لحن ... معها من لحون تلك الأغاني1
ويأتي السنوسي في العصر الحديث ليصور هو أيضًا الغناء في سحر وقوة متأثرًا بابن الرومي فيما سبق؛ لكنه يتجاوب فيه مع أصداء عصره، فيقول الشاعر في صوت "كوكب الشرق أم كلثوم".
يا كوكب الشرق طال الليل بالساري ... فقصريه بألحان وأوتاري
وسلسلي فيه صوتًا ملء نبرته ... صفو الندى والشذى والكوثر الجاري
ورددي في دجاه شدو ساجعيه ... يذوب بين يديها كل قيثار
مديه في الليل ينداح الصباح سنا ... وفي الضحى يتردى ثوب أقمار
فنانة الضاد كم للضاد من نغم ... على شفاهك منه ذوب مضمار
جلوته فجلوت الفن مرتفعًا ... يموج بين أغاريد وأشعار
صوت إذا حركته في الدجى سحبت ... أردانها الريح في غيناء معطار
يلقاك بالسحر في الألفاظ منطلقًا ... وبالحنان المصفى والجوى النار
وغنة ما وعت أذن ولا سمعت ... بمثلها منذ أزمان وأدهار
كأنما في أغانيها وفي فمها ... أنغام إسحاق أو ألحان موزار
تهزه فتهز الشرق أجمعه ... قلبًا بقلب وأفكار بأفكار
يصغي إليها كما يصغي الحبيب ... إلى حبيب في مناجاة وأسرار
إن قلت: يا ليل قال الليل من طرب ... أو قلت يا عين لم تهدب بإشقار
تعلو به طبقات الجو صادحة ... فينتشي كل نجم في الدجى سار
آنا تضخمه أنا ترققه ... فعل الهوى والتصابي بين سمار
كأنه في يديها غصن ناضرة ... تسمو به ثم تدنو ذات منقار
كم بات يصغى إليها كل ذي كبد ... حرى اللواعج من شوق وتذكار
__________
1 المرجع السابق ص221، 361.

الصفحة 151