كتاب المذاهب الأدبية في الشعر الحديث لجنوب المملكة العربية السعودية

ولا كل ريش يستطيع الطير في الهواء، فهو صوت فريد في مجال اللحن والغناء.
ومع ذلك فقد غلب على تصوير ابن الرومي للغناء التجرد عن مظاهر الطبيعة وخاصة في القصيدة الأولى، وساد عند السنوسي تجسيم الغناء في مظاهر الطبيعة.
أما ما اختلف فيه الشاعران فهو مدى استجابة المستمعين للغناء، فجمهور "وحيد" تجاوزوا حب الطرب والغناء إلى ما هو أكثر من ذلك من الغراء والإغراء، مما يخشى على العاقل الذي رجح عقله، ويخاف على الرشيد؛ لأنها تصبي القلوب بحبها، فالجمهور عندها مزعزع الإيمان ضعيف العقيدة، يخشى على دينه، ويخاف من الوقوع في حبال الشياطين.
لكن جمهور كوكب الشرق يحب غناءها المجرد عنها، فذو العقل لا يتردى في حرج من غنائها، وذو الوقار والاتزان يجد في وقارها واتزانها ما تستجيب له نفسه يقول:
ولا يرى في غناها ذو الحجي حرجًا ... وذو وقار ولا يزري به زار
لأنها غنَّت للشرق الإسلامي ألحان الخلود في حضارة الإسلام وغنت للعروبة التي سما بها الإسلام في سماء المجد، كما غنت للرسول -صلى الله عليه وسلم- الذي نزل عليه الوحي، وصاحب الغار والذي أقام حضارة الإسلام بعد الهجرة النبوية المباركة.
فجمهورها قوي في إيمانه متمسك بعقيدته، يزداد إيمانًا حينما ينساب الغناب في حضارة الإسلام، فتسبد بقلبه تلك الحضارة فيزداد اقتناعًا بعقيدته وحبًّا لها لا لكوكب الشرق، التي لم تتخذ الدلال وسيلة للإغراء في الغناء، كما اتخذته "وحيد" مغنية ابن الرومي.
ومن الصور التي تأثر بها السنوسي صورة المنافق في الشعر العربي القديم، ذكر عبد القاهر الجرجاني في تعليل بلاغة الكلام قول ابن لنكك:
في شجر السرو منهم مثل ... له رواء وما له ثمر
وقول ابن الرومي:
فغدا كالخلاف يورق للعين ... ويأبى الإثمار كل الإباء
وقوله الآخر:
وإن طرة راقتك فانظر فربما ... أمر مذاق العود والعود أخضر1
__________
1 أسرار البلاغة: عبد القاهر الجرجاني ص91 تحقيق محمد رشيد رضا.

الصفحة 154