كتاب المذاهب الأدبية في الشعر الحديث لجنوب المملكة العربية السعودية

والتأثر ظاهر بصورة النفاق بين الشاعرين وبخاصة في صورة ابن الرومي الأخيرة، فالمنافق في مكره ودهائه ورداءة طبعه كالثعلب يؤثر منفعته، ولا يسعى إلا لحاجته الذاتية، فهو ثعلب في طباعه، يسير هادئًا لينًا في خفاء وتحفظ كالقط الأليف. والمنافق في لؤمه كالكب المسعور يهش للقادم سماحة، ويداعبه غدرًا؛ لينقضَّ على فريسته كالذئب في غدره وخيانته، فهو في الظاهر مستوي الخلقة، متكامل السمت، يتستر وراء الغرور والوقار، ويتشدق بالنصيحة، ويتلاعب بالحكمة، لكنه من الباطن يتفجر عن غدر ونكد، وينطوي على حقد وشر، فلا يسلم من يتعامل معه من مخالب الغدر، فيظل يعاني منه آلامًا ومرارة ومتاعب.
والمنافق عند السنوسي كالحرباء، بل الحرباء تخجل منه، وتعرض عنه مكسوفة، وتلك طبيعة المنافق في تكوينه، يلبس لكل حال لبوسها، ويتقلب حسب الأغراض والأهداف، كما تتأقلم الحرباء حسب اختلاف البيئات، وتغاير الألوان في الجبال والرمال، لتكون قطعة متجانسة مع الأرض التي تعيش عليها.
لكن الصورة عند ابن الرومي أدق وأعمق حين صور المنافق بالثعلب والكلب المسعور؛ لأن المنافق غالبًا ما يخدع الناس لحسن ظنهم فيه، وينال منهم كما ينهش الكلب المسعور فريسته، بعد الهدوء والمسالمة وحلاوة اللسان على العكس من الحرباء فتتلون ولا تؤذي أحدًا.
أما السنوسي يصور المنافق حين يتعامل مع الآخرين، الذين لا يسلمون من شره وأذاه، كمن يلطخ الثياب البيضاء بالحبر الأسود، والمنافق أشد من الوباء الذي يعدي في خفاء، فيزكم الأنوف بمرضه، ويقتل النفوس بجيفته المنتنة.
وبصورة أيضًا بأرض بور، بل كالبلاط الذي لا ينبت زهرًا ولا يجلب خيرًا، مهما فاضت المياه، ويصور قلب المنافق في ظلمه وظلامه كالكهوف المظلمة تغشيها الدجنة باستمرار، فتأوى إليه الحيات والعقارب، والحشرات السامة، ومع كل ذلك فهو ضعيف لا يقوى على مواجهة الحق، رقيق كالظلال الوريفة تمزق النسيم اللطيف.
وتلك صورة جديدة تفرَّد بها السنوسي عن سابقيه، وكذلك موضوع القصيدة، كانت منه لفتة لطيفة وطريفة حين طوع المثل العام الذي يجري على كل لسان، وهو "لكل صابونة ليفة" ليجعل منه موضوعًا شعريًّا وغرضًا أدبيًّا، ليفيض الشعر عليه بالإيحاء والقوة والشاعرية، والموضوع في ذاته صورة جديدة للمنافق في عصرنا الحديث.
والسنوسي بهذه الصورة الطريفة للمنافق التي أطنب فيها حتى صارت قصيدة، تضع الشاعر في مكانه البارز بين شعراء عصره ولا تقل عن صورة المنافق في الشعر القديم، وإن اتصفت بالإيجاز والقصر؛ لأن الشعراء السابقين فضل السبق، ولشاعرنا السنوسي فضل الزيادة.

الصفحة 155