كتاب المذاهب الأدبية في الشعر الحديث لجنوب المملكة العربية السعودية

ومما يدل أيضًا على اضطراب التجربة، وقلق التصوير الأدبي، مثل اضطراب كلمة "كما" وعاميتها، فليست لفظًا شعريًّا؛ لأن للشعر أدواته الخاصة، وذلك في قوله: "وارتاعت خطاه كما فؤاد الجبان" مما أحدث قلقًا في موسيقى البيت وشذاجة في التصوير الأدبي.
ومثل صورة تسابيح الدم الزكي تدق السماء، إنها تتفتح لها أبواب السماء، ولا تدقها، لما فيه من معنى العنف والقهر.
ومثل صورة "أرى الملائك حفّت بقتيل، وصورة "إنها تغسل القتيل"، وما هو بقتيل؟! بل هو شهيد وأي شهيد، والوزن واحد لم يضطرب.
وكذلك صورة: "نم قريرًا ... فأنت ما زلت رمز الاحتراق الرضي" تناقض في التصوير الأدبي، كيف ينام قرير العين وهو رمز الاحتراق الرضي.
وفي كل هذا الدلالة على أن الشاعر متحرر في تجديده من القيود الموضوعية، التي تتناسب مع أحداث القصة الشعرية فيعتسف طريقًا آخر يعبر فيه عن ذاته لا عن موضوع القصة وأحداثها، ألا وهو الهروب إلى الطبيعة، بدون مبالاة لواقعية الأحداث ونموها، ثم التحرر أيضًا من الواقعية الموضوعية إلى الانطلاق في ذات الشاعر، والتغني بها من خلال مظاهر الطبيعة، مما أوقع الشاعر في اضطراب التجربة الشعورية وقلق التصوير لها والتناقض بين أجزائها، وعدم انسجامها مع الغرض من القصيدة.
والشاعر نفسه يعترف بهذه الحقيقة، فيقول عن شعره في ديوانه "طيفان على نقطة الصفر": نلاحظ أن التناول لم يكن منصبًّا على سرد التفاصيل الحديثة، بقدر ما يصف الأثر النفسي أو الانعكاسات الشرطية، كما يسميها بذلك تلاميذ الغزالي، وبافلوف ... إنني لا أميل كثيرًا إلى الموضوعية في الشعر، فكلما كان الشعر موضوعيًّا كان بسيطًا، وكلما كان بسيطًا فقد هيبته وفاعليته كداعية إلى التخيل والتفكير1.
وليس هذا القول صحيحًا إلَّا من جانب واحد فقط، وهو أن الشاعر متحرر ينشد ذاته فقط، ولا يحسن تصوير الأحداث في الشعر الموضوعي، ومن ينكر شاعرية شوقي في مسرحياته، وروعة التصوير فيها2، فالتحرر عند بهكلي جعله لا يجيد تصوير شعر الموضوعات، والتي تقوم على نمو الأحداث وسحر تصويرها.
والذي يؤكد وجهة نظري هذه، هو ما أحس به بهكلي نفسه حينما حاول أن يأخذ
__________
1 طيفان على نقطة الصفر: المقدمة.
2 مثل مسريحة مجنون ليلى، على بك الكبير، العباسة وغيرها.

الصفحة 330