كتاب المذاهب الأدبية في الشعر الحديث لجنوب المملكة العربية السعودية

شاعرية المطلع الغزلي الذي فاض بوجدان الشاعر الصادق، وعبَّر عن لظى مشاعره المتأججة من لوعة الفراق، فخطرت له في أبهى زينتها، فسحرته بحديثها وبعينيها، لتطفئ غليل الشوق، لكن العاذل يترصده ليقطع وصل الحبيبين، ألا وهو الأسر الذي أنسى النفوس أعز البلاد وأجمل الذكريات في حلى ورجال ألمع، وهكذا يتسلل الشاعر من الغزل العفيف إلى الحنين للوطن ببراعة ولطف، حتى لا يشعر القارئ بأن القصيدة تحتوي على غرضين، وكان غزله بريئًا يصور الخواطر النفسية، وكيف تجاوب وجدانه مع سحر الوصل، وجمال اللحظ، وعذوبة الحديث ولطف الروح، كما اغتلى وجدانه أيضًا بظلم الأسر في بلاد الروم ونار البعاد عن الوطن، ولوعة الفراق عن الأهل والخلان، في تصوير أدبي رائع، وشاعرية قوية متدفقة، وعاطفة صادقة مشبوبة، وذلك في شعر يكاد يخلو من مسحة الكلفة والمبالغة، حتى نشعر بأن أسلوب القصيدة وتراكيبها، بلغت من العذوبة والسهولة مبلغ التعبير الدارج في النصوص النثرية المألوفة، ولولا توقد العاطفة، وميزان الشعر من العروض والقافية، لقلنا بأنها قطعة أدبية تدخل في باب النثر الفني الرفيع.
وسقطات القصيدة قليلة، لا تغض من قوة الشاعرية، أو تنقص من قدرة الموهبة الأصلية في الشعر، فالقافية مثلًا فيها ليست مركبًا صعبًا تنتهي إليها، وهذه تعطي تجوزًا للشاعر إذا لم تستجب بنية الكلمة القائمة على الهاء، وجد الشاعر مهربًا من حقله اللغوي الضيق إلى كلمة أخرى يوصلها بالهاء المضافة ضميرًا، يرجع إلى ما قبله، وتلك توسعة على الشاعر حتى لا يخضع لضرورة القافية.
وعدم خضوع الشاعر لضرورة القافية يدل على تمكن الشاعر من معامل الاشتقاق اللغوي، واستخدامه استخدامًا جيدًا في القافية، ويعبر أيضًا عن قدرة الموهبة الشعرية عنده، وتلك براعة يتصف بها نوابغ الشعراء.
سرى الغموض في بعض المعاني للقصيدة مثل هذين البيتين:
طلب التلطف والترحم سيدي ... منكم وأما الغير لا أرض لها
كل عبيدك بالسواء وإنما ... تعطى لمن ترضى أليم وبالها
فلا أدري المعنى في قوله: "وأما الغير لا أرض لها" أيكون المقصود: أما غير الله فلا تطلب التلطف والترحم منه، وإذا كان كذلك فيكون الغموض واقعان لا يقف عليه القارئ بيسر، وذلك لا بسبب صورة شعرية موحية، تبهره لوقت ما، حتى يقع على المعنى فيرويه كما يروي الظمآن، ولكن بسبب التعقيد في التركيب؛ حيث جعل الشاعر التطلف والترحم عند غير الله لا أرض له، فكان الغموض في اختيار لفظ "الأرض" وفي عود الضمير على اللفظ المؤنث للأرض من أجل القافية. بينما هو يعود على التطلف والترحم، وكلاهما مذكر، ليعود عليهما الضمير مذكرًا لا مؤنثًا، والتقدير "وأما الضمير لا أرض له: أي للتلطف والترحم".

الصفحة 61