كتاب المذاهب الأدبية في الشعر الحديث لجنوب المملكة العربية السعودية

ثانيًا: الشعر الوجداني
هو الغرض الثاني عند السنوسي، جاء بعد الشعر الإسلامي مباشرة، ولم يكن هذا الغرض غزلًا بالمعنى المعروف في الشعر العربي القديم، فالفرق بينهما كبير في نظري، مما يجعل هذا الغرض يتصل بالوجدان: وجدان الشاعر أكثر من الوصف الغزلي الخارجي للمرأة، فقد كانت القصيدة الغزلية قديمًا تعتمد على أساسين هامين:
أحدهما: انهيار الشاعر بمفاتن المرأة، وسحر أجزاء البدن فيها، فيأخذ في تصوير هذه الأجزاء جزءًا جزءًا، وقد يتعرض لما هو أخطر من ذلك، فيصور العلاقة بينه وبينها تصويرا ظاهرًا مكشوفًا، وواضحًا مفضوحًا، من غير رعاية لحرمات أو محرمات، وهو الجانب الحسي في الغزل القديم، كما في غزل امرئ القيس، وكثير عزة، وعمر بن أبي ربيعة وغيرهم.
وقد تطور هذا الغزل الحسي إلى غزل آخر عرف بالغزل "العذري" في تاريخ الأدب العربي، ترفع قليلًا عن الفحش الظاهر في التصوير الشعري، لكنه وقع فيما هو أخطر من ذلك، وهو "الفناء" أي فناء العاشق في سبيل المعشوق، وفناء المعشوق في سبيل العاشق، فيذهبان معًا ضحية للحب العذري، مثل عذرية جميل وبثينة، وقيس بن ذريح وغيرهما.
والغزل الحسي والعذري كلاهما مسرف في اتجاهه، فالأول مسرف في الجانب الحسي المرذول والمبتذل، والثاني مسرف في الجانب المجرد الذي يؤدي إلى الفناء، وكلاهما أيضًا بعيد كل البعد عن الاتزان الاسلامي في معالجة عاطفة الحب، وضبط شهوات النفس، لتنسجم مع الفطرة السليمة، في معالجة هذا البناء الاجتماعي عند الفرد.
ثانيهما: والأساس الثاني وهو أثر الغزل الحسي والغزل العذري بالمعنيين السابقين في وجدان الشاعر، وهذا نتيجة للأساس الأول، فالوجدان عند الشاعر في الغزل الحسي وجد أن ليس محمومًا، ولا حارًّا متدفقًا؛ لأن صاحبه قد أرضى نزواته وشهواته من مفاتن المرأة في تصويره الحسي الماجن، فتطفئ كل صورة من شعره جمرة من وجدانه وهكذا، وإذا ما انتهت القصيدة صورة صورة، لا تجد عرقًا ينبض من وجدان في نفس الشاعر، وتلك طبيعة الشهوة البهيمية التي يجب أن يترفع عنها المسلم.
أما الوجدان عند الشاعر العذري فهو وجدان يغتلي ويفور، ويلتهب فيحرق العروق التي تنبض بالحياة؛ لأن الشاعر لم يضبط وجدانه المسرف، ولم يحدد مساره وطريقه، فهو أشبه بنار تندلع في هشيم الجسد، فيأتي عليه فلا يترك أثرًا ولا بقية.
وكلاهما أيضًا وجدان هابط لا يسمو إلى شرف الإنسانية، ومعدوم لا ينبض بالحياة؛ لأنه هبط بالشاعر الحسي إلى مستوى الحيوان، فلا يكون في عداد الأناس الذين يعيشون

الصفحة 93