كتاب المذاهب الأدبية في الشعر الحديث لجنوب المملكة العربية السعودية

بوجدانهم الصادق والمتزن معًا، وكذلك أسرف الشاعر العذري فأفناه الغلو والمبالغة والإغراق فهما معًا لا يتلاءمان مع الطبيعة البشرية والفطرة الانسانية، لا الغريزة الحيوانية ولا الشهوة البهيمية، ولا التجرد الآدمي، ولا الانعتاق المطلق.
وشعر الوجدان والتأمل عند السنوسي يختلف كثيرًا عمَّا سبق في الأساسين، فلا هو هذا ولا هو ذاك، فلا هو غزل حسي ولا هو غزل عذري، وإنما هو وجدان شاعر استغرق في تأملاته العاطفية بلا هبوط ولا إسراف، بل في اتزان الشاعر المسلم الذي يعبر عن وجدانه في صدق فني، وترفع عن الصغائر الحيوانية الصرفة، وعن الإسراف البالغ؛ لأنه وجدان شاعر يحب ويهوى، لكن في أدب وخلق وعفة واتزان، وهذا ما أردت به "شعر الوجدان" والتأمل في أعماق النفس.
وعلى هذا فشعر الوجدان يشمل جوانب أخرى غير حب المرأة، تقوم على الحب المجرد الذي يشمل ما في الوجود كله، مثل حب الحياة وحب الناس، وحب الطبيعة، وحب الإنسان وحب المبادئ السامية، وغيره، لكن كل هذا من خلال الوجدان الذاتي للشاعر، لا من خلال موضوع يصطبغ بوجدانه، فلو كان الوجدان من خلال موضوع ما، لا نتقلنا من شعر الوجدان إلى غرض أدبي آخر غير الشعر الوجداني.
والشعر الوجداني جاء في ديوان "القلائد" متمثلًا في قصيدة "عودة الماضي ص34-41" يصور فيها وجدانه في الماضي، في تأملات عميقة يلتقطها الشاعر من وراء الحس الظاهر وهي تسير على نظام المقطعات، وهو أقصى ما يخرج فيه الشاعر على القالب الموسيقي القديم، ويعد هذا الخروج المحافظ جديدًا في شعره كله، يقول:
في لحظة من لحظات الهوى ... والنفس في فردوس أحلامها
تهتز أشجانًا وتهفو جوي ... على لياليها وأيامها
تلوذ الماضي بها وانزوى ... في صور الذكرى و"أفلامها"
ماضي برغمي قد مضى وانطوى ... بلحن أيامي وأنغامها
لاح لعيني وفي ناظري ... ظلال أيام براها الضنى
وفي سماء الفكر من خاطري ... أضواء "حب" قرمزي السنا
أحبابه في عالم ساحر ... وردية أحلامه والمنى
صبابة من حلم عابر ... دنا كلمح البرق ثم انثنى

الصفحة 94