كتاب المذاهب الأدبية في الشعر الحديث لجنوب المملكة العربية السعودية

وحومت كالطير الذي شفه الصدى ... ورفرف من شوق جناح ومنقار
فررت فرار الحلم من عين نائم ... صحا فإذا الرؤيا قفار وآثار
فنونك يدنيني إليك فأنتشي ... وصوتك يقصيني فأصحو وأحتار
فيا أنت يا أنت البخيلة بالهوى ... على كبد كانت من الحب تنهار
لمرآك في قلبي نعيم وفي دمي ... جحيم وفي عيني غيم وأمطار
رضيت بما يرضيك قسرًا وليس لي ... خيار ولو خيرتني كيف أختار؟
تحيرت في أمري وأمرك واستوى ... لدى الدجى والنور والماء والنار1
فالشاعر هنا يغتلي وجدانه، وتلتهب مشاعره في سبحة شاعرية يتأمل فيها أحاسيسه، ويتجاوب مع وجدانه، وجدان الحب الطاهر، لا في وصف حسي يثير الشهوات والنزوات كما في الغزل الحسي، ولا في غزل عذري يعزله عن الناس والحياة الأعمال، بل الشاعر كما نعرفه لا يزال يخوض غمار الأعمال، وإدارة المؤسسات بقدرات الرجال، وعزيمة المؤمنين.
ولذلك كان غزله تأملًا، ووجدانه يعبر فيه عن حب الإنسان الذي يوقر أخاه الإنسان، ويحافظ على مشاعره وإنسانيته، ويتضح خصائص الشعر الوجداني عند السنوسي على النحو الآتي:
1- السحر في عينها ترك قلبه في حيرة وتأمل، وصرع عقله برمزه ولغزه، ليظل حائرًا لا يستقر على الحقيقة، مما شبب هواه وأثار وجدانه، لكنه هوى مصون بالعفة، ووجدان مأسور بالدين وحسن المعاملة، كذلك السحر في جمالها رقيق طاهر كانعكاس أنوار الحياة على صفحة الماء الرفيق الطاهر.
2- ليست حبيبته فاجرة عانسة؛ لأن السحر في حيائها وأخلاقها المهذبة كحياء الأزهار من مقلة الشمس، وهذا ما يستبد بعقله ويأخذ بمجامع قلبه، لا تبذل، ولا فحش- لكنه كالندى حين يصافح الورود والأزهار في وقت الصباح.
3- أما تراسل الأجفان، وبرق الابتسام، وبريد جمال الوجه يشب في وجدان نار، ويغتلي صدره جوى، ويجتاح جسده إعصار فيه نار، فيشفي غلته بالرؤيا والنظر، كما يحوم الطير من بعيد، ليلطف حرارة الشوق بنشاطه وجهده، كما تلطف رفرفة الجناحين حرارة الجسد ولهيب الأحشاء، وليس هذا على سبيل الحقيقة والواقع؛ لأن دينه وخلقه يمنعه من ذلك، لكنه على سبيل الحلم والخيال والتأمل والوجدان، يقول:
فررت فرار الحلم من عين نائم ... صحا فإذا الرؤيا قفار وآثار
__________
1 الآغاريد: 38/ 40.

الصفحة 98