كتاب شرح الطحاوية - ط دار السلام
قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} [الأنعام: 65]، قَالَ: "أَعُوذُ بِوَجْهِكَ" , {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} [الْأَنْعَامِ: 65] قَالَ: "هَاتَانِ أَهْوَنُ" 1. فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَلْبِسَهُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَهُمْ بَأْسَ بَعْضٍ، مَعَ بَرَاءَةِ الرَّسُولِ مِنْ هَذِهِ الْحَالِ، وَهُمْ فِيهَا فِي جَاهِلِيَّةٍ, وَلِهَذَا قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَقَعَتِ الْفِتْنَةُ وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَوَافِرُونَ، فَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ كُلَّ دَمٍ أَوْ مَالٍ أو قرح أُصِيبَ بِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ, فَهُوَ هَدْرٌ، أَنْزَلُوهُمْ مَنْزِلَةَ الْجَاهِلِيَّةِ. وَقَدْ رَوَى مَالِكٌ2 بِإِسْنَادِهِ الثَّابِتِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، أَنَّهَا كَانَتْ تَقُولُ: تَرَكَ النَّاسُ الْعَمَلَ بِهَذِهِ الْآيَةِ، يَعْنِي قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الْحُجُرَاتِ: 9] , فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ لَمَّا اقْتَتَلُوا كَانَ الْوَاجِبُ الْإِصْلَاحَ بَيْنَهُمْ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى، فَلَمَّا لَمْ يُعْمَلْ بِذَلِكَ صَارَتْ فِتْنَةً وَجَاهِلِيَّةً، وَهَكَذَا تسلسل النزاع.
__________
1 صحيح، وعزوه لـ"الصحيحين" وهم، فإنه من أفراد البخاري كما يدل على ذلك تخريج ابن كثير إياه في "التفسير" والحافظ المزي في "التحفة" "2/ 251".
2 لم أجده في "الموطأ".
يجب رد جميع الأمور المتنازع فيها إلى الله والرسول صلى الله عليه وسلم:
"والأمور" الَّتِي تَتَنَازَعُ فِيهَا الْأُمَّةُ، فِي الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ, إِذَا لَمْ تُرَدَّ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ، لَمْ يَتَبَيَّنْ فِيهَا الْحَقُّ، بَلْ يَصِيرُ فِيهَا الْمُتَنَازِعُونَ عَلَى غَيْرِ بَيِّنَةٍ مِنْ أَمْرِهِمْ، فَإِنْ رَحِمَهُمُ اللَّهُ أَقَرَّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَلَمْ يَبْغِ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، كَمَا كَانَ الصَّحَابَةُ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ وَعُثْمَانَ يَتَنَازَعُونَ فِي بَعْضِ مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ، فَيُقِرُّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَلَا يَعْتَدِي وَلَا يُعْتَدَى عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يُرْحَمُوا وَقْعَ بَيْنَهُمُ الِاخْتِلَافُ الْمَذْمُومُ، فَبَغَى بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، إِمَّا بِالْقَوْلِ، مِثْلَ تَكْفِيرِهِ وَتَفْسِيقِهِ، وَإِمَّا بِالْفِعْلِ، مِثْلَ حَبْسِهِ وَضَرْبِهِ وَقَتْلِهِ. وَالَّذِينَ امْتَحَنُوا النَّاسَ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ، كَانُوا مِنْ هَؤُلَاءِ، ابْتَدَعُوا بِدْعَةً، وَكَفَّرُوا مَنْ خَالَفَهُمْ فِيهَا، وَاسْتَحَلُّوا مَنْعَ حَقِّهِ وَعُقُوبَتِهِ.
فَالنَّاسُ إِذَا خَفِيَ عَلَيْهِمْ بَعْضُ مَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ الرَّسُولَ: إِمَّا عَادِلُونَ وَإِمَّا ظَالِمُونَ، فَالْعَادِلُ فِيهِمْ: الَّذِي يَعْمَلُ بِمَا وَصَلَ إِلَيْهِ مِنْ آثَارِ الْأَنْبِيَاءِ، وَلَا يَظْلِمُ غَيْرَهُ، وَالظَّالِمُ: الَّذِي يَعْتَدِي عَلَى غَيْرِهِ. وَأَكْثَرُهُمْ إِنَّمَا يَظْلِمُونَ مَعَ عِلْمِهِمْ بِأَنَّهُمْ يَظْلِمُونَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} [آلِ عِمْرَانَ: 19]. وَإِلَّا فَلَوْ سَلَكُوا مَا عَلِمُوهُ مِنَ الْعَدْلِ، أَقَرَّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، كَالْمُقَلِّدِينَ لِأَئِمَّةِ الْعِلْمِ، الَّذِينَ يَعْرِفُونَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ عَاجِزُونَ عَنْ مَعْرِفَةِ حُكْمِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فِي تِلْكَ الْمَسَائِلِ، فَجَعَلُوا أئمتهم نوابا عن الرسول، وقالوا: هذا غَايَةُ مَا قَدَرْنَا عَلَيْهِ، فَالْعَادِلُ مِنْهُمْ لَا يَظْلِمُ الْآخَرَ، وَلَا يَعْتَدِي عَلَيْهِ بِقَوْلٍ وَلَا فِعْلٍ، مِثْلَ أَنْ يَدَّعِيَ أَنَّ قَوْلَ مُقَلِّدِهِ هُوَ الصَّحِيحُ بِلَا حُجَّةٍ يُبْدِيهَا، وَيَذُمُّ مَنْ خالفه، مع أنه معذور.
الصفحة 513