كتاب قدم العالم وتسلسل الحوادث

وأما جمهور الفلاسفة الدهرية كأرسطو وأتباعه فلا يقولون: أن الأفلاك معلولة لعلة فاعلة كما يقوله هؤلاء؛ بل قولهم وإن كان أشد فساداً من قول متأخريهم فلم يخالفوا صريح المعقول في هذا المقام الذي خالفه هؤلاء، وإن كانوا خالفوه من جهات أخرى ونظروا في حقيقة قول أهل الكلام الجهمية والقدرية ومن اتبعهم، فوجدوا أن الفاعل صار فاعلاً بعد أن لم يكن فاعلاً من غير حدوث شيء أوجب كونه فاعلاً، ورأوا صريح العقل يقتضي بأنه إذا صار فاعلاً بعد أن لم يكن فاعلاً، فلابد من حدوث شيء وأنه يمتنع في العقل أن يصير ممكناً بعد أن كان ممتنعاً بلا حدوث، وأنه لا سبب يوجب حصول وقت حدث وقت الحدوث؛ وأن حدوث جنس الوقت ممتنع، فصاروا يظنون إذا جمعوا بين هؤلاء أنه يلزم الجمع بين النقيضين، وهو أن يكون الفاعل قبل الفعل وأنه يمتنع أن يصير فاعلاً بعد ان لم يكن فيكون الفعل معه، فيكون الفعل مقارناً غير مقارن بأن كان بعد ان لم يكن حادثاً مسبوقاً بالعدم، فامتنع على هذا التقدير أن يكون فعل الفاعل مسبوقاً بالعدم، ووجب على التقدير الأول أن يكون فعل الفاعل مسبوقاً بالعدم، ووجدوا عقولهم تقصر عما يوجب هذا الإثبات وما يوجب هذا النفي، والجمع بين النقيضين ممتنع، فأوقعهم ذلك في الحيرة والشك.
ومن أسباب ذلك أنهم لم يعرفوا حقيقة السمع والعقل، فلم يعرفوا ما دل عليه الكتاب والسنة، ولم يميزوا في المعقولات بين المشتبهات، وذلك أن العقل يفرق بين كون المتكلم متكلماً بشيء بعد شيء دائماً، وكون الفاعل يفعل شيئاً بعد شيء دائماً، وبين آحاد الفعل والكلام، فيقول: كل واحد من أفعاله لابد أن

الصفحة 117