كتاب قدم العالم وتسلسل الحوادث

يكون مسبوقاً بالفاعل وأن يكون مسبوقاً بالعدم، ويمتنع كون الفعل المعين مع الفاعل أزلاً وأبداً وأما كون الفاعل لم يزل يفعل فعلاً بعد فعل فهذا من كمال الفاعل، فإذا كان الفاعل حياً، وقيل: إن الحياة مستلزمة الفعل والحركة كما فإذا كان الفاعل حياً، وقيل: إن الحياة مستلزمة الفعل والحركة كما قال ذلك أئمة أهل الحديث كالبخاري والدارمي وغيرهما، وأنه لم يزل متكلماً إذا شاء وبما شاء ونحو ذلك، كما قاله ابن المبارك وأحمد وغيرهما من أئمة أهل الحديث والسنة: كان كونه متكلماً أو فاعلاً من لوازم حياته، وحياته لازمة له، فلم يزل متكلماً فعالاً، مع العلم بأن الحي يتكلم ويفعل بمشيئته وقدرته، وأن ذلك يوجب وجود كلام بعد كلام وفعل بعد فعل، فالفاعل يتقدم على كل فعل من أفعاله، وذلك يوجب أن كل ما سواه محدث مخلوق، ولا نقول: أنه كان في وقت من الأوقات ولا قدرة حتى خلق [له قدرة] والذي ليس له قدرة هو عاجز، ولكن نقول: لم يزل الله عالماً قادراً مالكاً، لا شبه له ولا كيف.
فليس مع الله شيء من مفعولاته قديم معه، لا بل هو خالق كل شيء، وكل ما سواه مخلوق له، وكل مخلوق محدث كائن بعد ان لم يكن وان قدر أنه لم يزل خالقاً فعالاً.
وإذا قيل: أن الخلق صفة كمال؛ لقوله تعالى {افمن يخلق كمن لا يخلق؟} أمكن أن تكون خالقيته دائمة وكل مخلوق له محدث مسبوق بالعدم، وليس مع الله شيء قديم؟ وهذا أبلغ في الكمال من أن يكون معطلاً غير قادر على الفعل ثم يصير قادراً والفعل ممكناً له بلا سبب. وأما جعل المفعول المعين مقارناً له أزلاً وأبداً فهذا في الحقيقة تعطيل لخلقه وفعله، فإن كون الفاعل مقارناً لمفعوله أزلاً وأبداً مخالف لصريح المعقول.
فهؤلاء الفلاسفة الدهرية وان ادعوا أنهم يثبتون دوام الفاعليه فهم في الحقيقة معطلون للفاعلية، وهي الصفة التي هي أظهر صفات الرب تعالى، ولهذا وقع الإخبار بها في أول ما أنزل على الرسول - صلى الله عليه وسلم - فإن أوله: {اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم، الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم} . فأطلق الخلق ثم خص الإنسان، وأطلق التعليم ثم خص التعليم بالقلم، والخلق يتضمن فعله، والتعليم يتضمن قوله، فإنه يعلم بتكليمه وتكليمه بالايحاء؛ وبالتكلم من وراء حجاب، وبإرسال رسول يوحي بإذنه ما يشاء، قال تعالى: {وعلمك ما لم تكن تعلم) ، وقال تعالى: {فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم} ، وقال تعالى {ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه وقل: رب زدني علماً} وقال تعالى: {الرحمن، علم القرآن، خلق الإنسان، علمه البيان الشمس والقمر بحسبان} .
وهؤلاء الفلاسفة يتضمن قولهم في الحقيقة أنه لم يخلق ولم يعلم، فإن ما يثبتونه من الخلق والتعليم إنما يتضمن التعطيل، فإنه على قولهم لم يزل الفلك مقارناً له

الصفحة 118