كتاب قدم العالم وتسلسل الحوادث

من الروايات الثلاثة الصحيحة التي وردت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الموضوع، ما هو أقرب إلى التناسب مع رأيه هذا، فيرجحها على الروايتين الأخريين ويشطب عليها بالوهم والبطلان، دون أي مسوغ لهذا الترجيح. فقد ورد في البخاري في كتاب (بدء الخلق) بلفظ " كان الله ولم يكن شيء غيره " وورد في رواية أبي معاوية في الكتاب ذاته " كان الله تبارك وتعالى قبل كل شيء " وورد في كتاب (التوحيد) بلفظ " كان الله ولم يكن شيء قبله " ولما كانت الروايتان الأوليان أصرح في الرد على الفلاسفة الذين أثبتوا حوادث لا أول لها، أي أثبتوا ما يسمونه القدم النوعي، فقد اختار ابن تيمية أن يشطب عليهما، ويرجح عليهما رواية " ولم يكن قبله شيء " مع أن ابن تيمية رحمه الله يعلم ما هو معلوم لدى جميع علماء أصول الفقه، من أن الترجيح إنما يلجأ إليه عند التعارض وعدم إمكان الجمع، فأما ان كان الجمع بين الروايات ممكناً بل لا تعارض بينها، فيجب المصير إليه ويمنع من الإلغاء والترجيح. والروايات الثلاث هنا منسجمة مع بعضها ولا تعارض بينهما. فقد كان الله وليس معه شيء (¬1) ، وليس غيره شيء وليس قبله شيء. فما المسوغ إذن لترجيح واحدة منها واعتمادها، وإلغاء الروايتين الآخريين؟ وهذه من القواعد الأصولية التي لا خلاف فيها والتي لا تخفى على أحد، فضلاً عن ابن تيمية رحمه الله.
وقد علمت أن الدافع الوحيد الذي حمله على اختيار رواية " ولا شيء قبله " التي لا تخالف الروايات الأخرى مخالفاً القاعدة المتفق عليها في تفسير النصوص، هو أن لا يجد أمامه ما يمنعه من القول باستمرار حوادث متوالدة من بعضها إلى ما لا نهاية كما يقول الفلاسفة، وأن يصح له التفريق في المنع بين " حدوث
¬_________
(¬1) لكن البوطي لم يفسر لنا مراده من قوله (ليس معه شيء) هل يعني أن الله لم يكن فاعلاً
ولا خالقاً كما قال السبكي فيكون معطلاً للرب أم لا؟! وعلى كل حال سبق أن فصلنا معنى الرواية على فرض صحتها.

الصفحة 169