كتاب الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الآثار

إِبْرَاهِيمَ الْمُنْذِرُ الْفَقِيهُ، قَالَ: ثَبَتَ أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ: أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْفَرَعَةِ مِنْ كُلِّ خَمْسِينَ بِوَاحِدَةٍ.
وَرُوِّينَا عَنْ نُبَيْشَةَ الْحَدِيثَ، قَالَ: وَخَبَرُ عَائِشَةَ، وَخَبَرُ نُبَيْشَةَ ثَابِتَانِ.
وَقَدْ كَانَتِ الْعَرَبُ تَفْعَلُ ذَلِكَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَيَفْعَلُهَا بَعْضُ أَهْلِ الْإِسْلَامِ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ نَهَى عَنْهُمَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ: لَا فَرَعَ وَلَا عَتِيرَةَ، فَانْتَهَى النَّاسُ عَنْهَا؛ لِنَهْيِهِ إِيَّاهُمْ عَنْهَا، وَمَعْلُومٌ أَنَّ النَّهْيَ لَا يَكُونُ إِلَّا عَنْ شَيْءٍ كَانَ يُفْعَلُ، وَلَا يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَقُولُ: إِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَنْهَاهُمْ عَنْهُمَا، ثُمَّ أَذِنَ فِيهِمَا، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْفِعْلَ كَانَ قَبْلَ النَّهْيِ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ نُبَيْشَةَ: إِنَّا كُنَّا نَعْتُرُ عَتِيرَةً فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَإِنَّا كُنَّا نُفَرِّعُ فَرَعًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَفِي إِجْمَاعِ عَوَامِّ عُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ أَنَّ اسْتِعْمَالَهَا ذَلِكَ وُقُوفٌ عَلَى الْأَمْرِ بِهِمَا مَعَ ثُبُوتِ النَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ بَيَانٌ لِمَا قُلْنَاهُ.
وَقَدْ ... كَانَ ابْنُ سِيرِينَ مِنْ بَيْنِ أَهْلِ الْعِلْمِ يَدَعُ الْعَتِيرَةَ فِي شَهْرِ رَجَبٍ، وَكَانَ يَرْوِي فِيهَا شَيْئًا ... .
وَكَانَ الزُّهْرِيُّ يَقُولُ: الْفَرَعَةُ أَوَّلُ النِّتَاجِ، وَالْعَتِيرَةُ شَاةٌ كَانُوا يَذْبَحُونَهَا فِي رَجَبَ ... .
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَا فَرَعَةَ وَلَا عَتِيرَةَ: قَالَ أَبُو عُمَرَ: وَهِيَ الْفَرَعَةُ، وَالْفَرَعُ بِنَصْبِ الرَّاءِ، وَهُوَ أَوَّلُ وَلَدٍ تَلِدُهُ النَّاقَةُ، وَكَانُوا يَذْبَحُونَ ذَلِكَ لِآلِهَتِهِمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ؛ فَنُهُوا عَنْهَا.
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَأَمَّا الْعَتِيرَةُ فَهِيَ الرَّجَبِيَّةُ، كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا طَلَبَ أَحَدُهُمْ أَمْرًا نَذَرَ إِنْ ظَفَرَ بِهِ أَنْ يَذْبَحَ مِنْ غَنَمِهِ فِي رَجَبٍ، كَذَا وَكَذَا وَهِيَ الْعَتَائِرُ وَنُسِخَ بَعْدُ.
وَيُمْكِنُ أَنْ يَسْلُكَ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ غَيْرَ مَسْلَكِ ابْنِ الْمُنْذِرِ؛ فَيُحْمَلُ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: لَا فَرَعَةَ وَلَا عَتِيرَةَ أَيْ: لَا فَرَعَةَ وَاجِبَةٌ، وَلَا عَتِيرَةَ وَاجِبَةٌ، وَهَذَا أَوْلَى؛ لِيَكُونَ جَمْعًا بَيْنَ الْأَحَادِيثِ كُلِّهَا، وَرُوِّينَا نَحْوَ هَذَا الْقَوْلِ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيِّ.

الصفحة 158