كتاب إعجاز القرآن للباقلاني

على، وقال: يقول لك الملك: ليس على مائدتي، ولا في شئ من طعامي شئ تكرهه، وقد استحسنت ما أتيت به، وما أنت عندنا كسائر الرسل، بل أعظم وما كرهت من لحوم الخنازير إنما هو خارج من حضرتي، بينى وبينه حجاب.
فنهضت على كل حال، وجلست وقدم الطعام، ومددت يدى وأوهمت الاكل ولم آكل منه شيئا، مع أنى لم أر على مائدته ما يكره.
فلما فرغ من الطعام بخر المجلس وعطره، ثم قال: هذا الذى تدعونه في معجزات نبيكم: من انشقاق القمر، كيف هو عندكم؟ فقلت: هو صحيح عندنا، انشق القمر على عهد رسول الله حتى رأى الناس ذلك، وإنما رآه الحضور ومن اتفق نظره إليه في تلك الحال.
فقال الملك: وكيف: ولم يره جميع الناس؟ ! قلت لان الناس لم يكونوا على أهبة ووعد لشقوقه وحضوره فقال: وهذا القمر بينكم وبينه نسبة قرابة؟ لاى شئ لم تعرفه الروم وغيرها من سائر الناس، وإنما رأيتموه أنتم خاصة؟ ! قلت: فهذه المائدة بينكم وبينها نسبة؟ وأنتم رأيتموها دون اليهود والمجوس
والبراهمة وأهل الالحاد، وخاصة يونان جيرانكم، فإنهم كلهم منكرون لهذا الشأن، وأنتم رأيتموها دون غيركم؟ فتحير الملك، وقال بكلامه: سبحان الله.
وأمر بإحضار فلان القسيس ليكلمني، وقال: نحن لا نطيقه، لان صاحبه قال: ما في مملكتي مثله، ولا للمسلمين في عصره مثله.
فلم أشعر إذ جاء برجل كالذئب، أشقر الشعر، فقعد، وحكيت عليه المسألة، فقال: الذى قاله المسلم لازم، وهو الحق، لا أعرف له جوابا إلا ما ذكره فقلت له: أتقول: إن الخسوف إذا كان يراه جميع أهل الارض؟ أم يراه أهل الاقليم الذى بمحاذاته؟ قال: لا يراه إلا من كان في محاذاته.
فقلت: فما أنكرت من إنشقاق القمر إذا كان في ناحية أن لا يراه أهل تلك
ولو كانوا في الفصاحة على مرتبة واحدة، وكانت صوارفهم وأسبابهم متفقة - لتوافوا إلى القبول جملة واحدة.
/ فإن قيل: فكيف يعرف البليغ الذي وصفتموه إعجاز القرآن؟ وما الوجه الذي يتطرق به إليه، والمنهاج الذي يسلكه، حتى يقف به على جلية الأمر فيه؟ قيل: هذا سبيله أن يفرد له فصل.
* * *
فإن قيل: فلم زعتم أن البلغاء عاجزون عن الإتيان بمثله مع قدرتهم على صنوف البلاغات، وتصرفهم في أجناس الفصاحات؟ وهلاّ قلتم: إن من قدر على جميع هذه الوجوه البديعة بوجه (1) من هذه الطرق الغريبة - كان على مثل نظم القرآن قادراً، وإنما يصرفه الله عنه ضرباً من الصرف، أو يمنعه من الإتيان بمثله ضرباً من المنع، أو تقصر دواعيه [إليه] دونه، مع قدرته عليه.
ليتكامل ما أراده الله من الدلالة، ويحصل ما قصده من إيجاب الحجة، لأن من قدر على نظم كلمتين بديعتين، لم يعجز عن نظم مثلها، وإذا قدر على ذلك قدر على ضم الثانية إلى الأولى، وكذلك الثالثة، حتى يتكامل قدر الآية والسورة؟ فالجواب: أن لو صح ذلك لصح لكل من أمكنه نظم ربع بيت، أو مصراع من بيت - أن ينظم القصائد ويقول الأشعار، وصح لكل ناطق - قد يتفق في كلامه الكلمة البديعة - نظم الخطب البليغة والرسائل العجيبة! ومعلوم أن ذلك غير سائغ ولا ممكن.
على أن ذلك لو لم يكن معجزاً على ما وصفناه من جهة نظمه / الممتنع، لكان مهما حط من رتبة البلاغة فيه، ومنع (2) من مقدار الفصاحة في نظمه، [كان] أبلغ في الاعجوبة (3) ، إذا صرفوا عن الاتيان بمثله، ومنعوا من (4) معارضته، وعدلت دواعيهم عنه، فكان يستغني عن إنزاله على النظم البديع، وإخراجه في (5) المعرض الفصيح العجيب.
__________
(1) س: " وتوجه " (2) س: " ووضع " (3) م: " في العجوبة " (4) س: " عن " (5) م: " على "
(*)

الصفحة 29