كتاب إعجاز القرآن للباقلاني

الناحية ومن تأهب للنظر له، فأما من أعرض عنه، أو كان في الامكنة التى لا يرى القمر منها فلا يراه.
فقال: كما قلت لا يدفعك عنه دافع، وإنما الكلام في الرواة الذين نقلوه، فأما الطعن في غير هذا الوجه فليس بصحيح.
فقال الملك: وكيف يطعن في النقلة؟ فقال القسيس: شبه هذا من الآيات - إذا صح وجب أن ينقله الجم الغفير حتى يتصل بنا العلم الضرورى به، ولما لم نعلم ذلك بالضرورة، دل على أن الخبر مفتعل باطل.
فالتفت الملك إلى، وقال: الجواب؟ قلت: يلزمه في نزول المائدة، ما يلزمنى في إنشقاق القمر، ويقال: لو كان
نزول المائدة صحيحا لوجب أن ينقله العدد الكثير، فلا يبقى يهودى ولا نصراني ولا وثنى إلا ويعلم هذا بالضرورة، ولما لم يعلموا ذلك بالضرورة دل أن الخبر مكذوب فبهت القسيس والملك ومن ضمه المجلس، وانفصل المجلس على هذا * * * قال الباقلانى: ثم سألني الملك في مجلس ثان، فقال: ما تقولون في المسيح عيسى بن مريم؟ قلت: روح الله وكلمته وعبده، ونبيه ورسوله، كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له: كن.
فيكون، وتلوت عليه النص.
فقال: يا مسلم، تقولون: المسيح عبد؟ فقلت: نعم، كذا نقول، وبه ندين.
قال: ولا تقولون إنه ابن الله؟ قلت: معاذ الله، (مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ، وَمَا كَانَ معه من إله) ، إنكم لتقولون قولا عظيما، فإذا جعلتم المسيح ابن الله فمن أبوه وأخوه وجده وعمه وخاله؟ وعددت عليه الاقارب - فتحير وقال:
على أنه لو كانوا صرفوا على ما ادعاه، لم يكن من قبلهم من أهل الجاهلية مصروفين عما كان يعدل به في الفصاحة والبلاغة وحسن النظم وعجيب الرصف.
لأنهم لم يتحدوا إليه، ولم تلزمهم حجته.
فلما لم يوجد في كلامه من قبله مثله، علم أن ما ادعاه القائل " بالصرفة " ظاهر البطلان.
وفيه معنى آخر، وهو: أن أهل الصنعة في هذا الشأن إذا سمعوا كلاماً مطمعاً لم يخف عليهم، ولم يشتبه لديهم.
ومن كان متناهياً في فصاحته لم يجز أن يطمع في مثل هذا القرآن بحال.
فإن قال صاحب السؤال: إنه قد يطمع في ذلك.
قيل له: أنت تزيد على هذا فتزعم أن كلام الآدمي قد يضارع القرآن، وقد يزيد / عليه في الفصاحة ولا يتحاشاه، ويحسب أن ما ألفه (1) في الجزء والطفرة هو أبدع وأغرب من القرآن لفظاً ومعنى! ولكن ليس الكلام على ما يقدره مقدر في نفسه، ويحسبه ظان من أمره.
والمرجوع في هذا إلى جملة الفصحاء دون الآحاد.
ونحن نبين بعد هذا وجه امتناعه عن الفصيح البليغ، ونميزه في ذلك عن سائر أجناس الخطاب، ليعلم أن ما يقدره من مساواة كلام الناس به تقدير ظاهر الخطأ ببين الغلط، وإن هذا التقدير من جنس من حكى الله تعالى قوله في محكم كتابه: (إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ، ثُمَّ قُتَلَ كَيْفَ قَدَّرَ، ثُمَّ نَظَرَ، ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ، ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ، فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ، إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرَ) (2) فهم يعبرون عن دعواهم: أنهم يمكنهم أن يقولوا مثله، وأن (3) ذلك من قول
البشر، لأن ما كان من قولهم فليس يقع فيه التفاضل إلى الحد الذى يتجاوز إمكان معارضته.
ومما يبطل ما ذكروه من القول " بالصرفة " أنه لو كانت المعارضة ممكنة - وإنما منع منها " الصرفة " - لم يكن الكلام معجزاً.
وإنما يكون المنع هو المعجز (4) ، فلا يتضمن الكلام فضيلة على غيره في نفسه.
__________
(1) م: " أن ما قد ألفه " (2) سورة المدثر: 18 - 25 (3) س: " بأن " (4) س: " المنع معجزا " (*)

الصفحة 30