كتاب إعجاز القرآن للباقلاني

واحد في حسن النظم، وبديع التأليف والرصف، لا تفاوت فيه ولا انحطاط عن
المنزلة العليا، ولا إسفاف فيه إلى الرتبة الدنيا.
وكذلك قد تأملنا ما يتصرف إليه وجوه الخطاب من الآيات الطويلة والقصيرة، فرأينا الإعجاز في جميعها على حد واحد لا يختلف.
وكذلك قد يتفاوت كلام الناس عند إعادة ذكر القصة الواحدة، تفاوتا بينا، ويختلف اختلافا كثيرا.
ونظرنا القرآن فيما يعاد ذكره من القصة الواحدة فرأيناه غير مختلف ولا متفاوت بل هو على نهاية البلاغة، وغاية البراعة، فعلمنا بذلك أنه مما لا يقدر عليه البشر ".
والمعنى الرابع: أن كلام الفصحاء يتفاوت تفاوتاً بيناً في الفصل والوصل والعلو والنزول، والتقريب والتبعيد، وغير ذلك مما ينقسم إليه الخطاب عند النظم، ويتصرف فيه القول عند الضم والجمع.
وكذلك يختلف سبيل غيره عند الخروج من شئ إلى شئ، والتحول من باب إلى باب.
والقرآن على اختلاف فنونه، وما يتصرف فيه من الوجوه الكثيرة، والطرق المختلفة - يجعل المختلف كالمؤتلف، والمتباين كالمتناسب، والمتنافر في الأفراد إلى حد الآحاد.
وهذا أمر عجيب، تبين به الفصاحة وتظهر به البلاغة، ويخرج معه الكلام عن حد العادة، ويتجاوز العرف ".
والمعنى الخامس: أن نظم القرآن وقع موقعاً في البلاغة يخرج عن عادة كلام الجن، كما يخرج عن عادة كلام الانس، فهم يعجزون عن الإتيان بمثله كعجزنا، ويقصرون دونه كقصورنا ".
والمعنى السادس ص 62: " أن الذى ينقسم إليه الخطاب، من البسط والاقتصار، والجمع والتفريق، والاستعارة والتصريح، والتجوز والتحقيق، ونحو ذلك من الوجوه التي توجد في كلامهم - موجود في القرآن، وكل ذلك مما يتجاوز حدود كلامهم المعتاد بينهم في الفصاحة والابداع والبلاغة ".
والمعنى السابع ص 63: " أن المعاني التى تضمنها في أصل وضع الشريعة
والأحكام والاحتجاجات في أصل الدين، والرد على الملحدين، على تلك الألفاظ البديعة، وموافقة بعضها بعضاً في اللطف والبراعة مما يتعذر على البشر ويمتنع ".
/ قوله: " قيد الأوابد " عندهم من البديع ومن الاستعارة، ويرونه من الألفاظ الشريفة (1) ، وعنى بذلك أنه إذا أرسل هذا الفرس على الصيد صار قيداً لها، وكانت بحالة المقيد من جهة سرعة إحضاره.
واقتدى به الناس، واتبعه الشعراء، فقيل: " قيدُ النواظر " و " قيدُ الألحاظ " و " قيد الكلام " و " قيد الحديث " و " قيد الرهان ".
وقال الاسود بن يعفر: بمقلص عتد جَهِيزٍ شده * قيدُ الأوابد والرهان جواد (2) وقال أبو تمام: لها منظر قيدُ الأوابدِ لم يَزَل * يروحُ ويغدو في خفارته الحُبُّ (3) / وقال آخر: ألحاظُهُ قيدُ عيونِ الورى * فليس طَرُفٌ يَتَعَدَّاهُ (4) وقال آخر: * قَيَّدَ الحُسْنُ عليه الحَدَقَا (5) * وذكر الاصمعي وأبو عبيد وحماد، وقبلهم أبو عمرو: أنه أحسن في هذه
__________
(1) في الصناعتين 207: " والحقيقة: مانع الاوابد من الذهاب والافلات.
والاستعارة أبلغ، لان القيد من أعلى مراتب المنع عن التصرف، لانك تشاهد ما في القيد من المنع فلست تشك فيه ".
وقال قدامة في نقد الشعر ص 58: " فإنما أراد أن يصف هذا الفرس بالسرعة وأنه جواد، فلم يتكلم باللفظ بعينه، ولكن بأردافه ولواحقه التابعة له، وذلك أن سرعة إحضار الفرس يتبعها أن تكون الاوابد - وهى الوحش - كالمقيدة له إذا نجا في طلبها.
والناس يستجيدون لامرئ القيس هذه اللفظة فيقولون: هي أول من قيد الاوابد، وإنما عنى بها الدلالة على جودة الفرس وسرعة إحضاره، فلو قال ذلك بلفظه لم يكن عند الناس من الاستجادة ما جاء من إتيانه بالردف له.
وفي هذا برهان على أن وضعنا الارداف من أوصاف الشعر ونعوته واقع بالصواب ".
(2) فرس مقلص: طويل القوائم، وفى المفضليات 2 / 19 " بمشمر " وهى بمعناها.
وعتد: قوى سريع الوثبة معد للجرى.
جهيز شده: سريع عدوه.
الرهان: المراهنة، يعنى إنه إذا دخل السباق حبس الرهن فلا يناله غيره.
الجواد: القوى السابق البعيد الجرى والبيت في الخزانة 1 / 508.
(3) ديوانه 1 / 17 " قيد النواظر " والخزانة 1 / 508.
(4) غير منسوب في الخزانة 1 / 508 (5) غير منسوب في الخزانة 1 / 508 وديوان المعاني 1 / 264 (*)

الصفحة 70