كتاب إعجاز القرآن للباقلاني

النبوة، ومعجزة على الرسالة ".
وختم الباقلانى كلامه في هذا الفصل بإلزام عجيب لمخالفيه حيث يقول في ص 99: " ولا بد لمن جوز السجع فيه وسلك ما سلكوه من أن يسلم ما ذهب إليه النظّام، وعباد بن سليمان، وهشام الفوطي، ويذهب مذهبهم، في أنه ليس في نظم القرآن وتأليفه إعجاز، وأنه يمكن معارضته، وإنما صرفوا عنه ضرباً من الصرف.
ويتضمن كلامه تسليم الخبط في طريقة النظم، وأنه منتظم من فرق شتى، ومن أنواع مختلفة ينقسم إليها خطابهم ولا يخرج عنها.
ويستهين ببديع نظمه وعجيب تأليفه الذي وقع التحدي إليه! وكيف يعجزهم الخروج عن السجع
والرجوع إليه، وقد علمنا عادتهم في خطبهم وكلامهم، أنهم كانوا لا يلزمون أبداً طريقة السجع والوزن، بل كانوا يتصرفون في أنواع مختلفة.
فإذا ادعوا على القرآن مثل ذلك، لم يجدوا فاصلة بين نظمى الكلامين! " هذا مجمل ما قاله الباقلانى في هذا الفصل الذى عقده لبيان نفى السجع من القرآن، وهو أخف فصول الكتاب وزنا، وأقلها قدرا، وأحفلها بالخطأ البين في أصل الفكرة، وفى كيفية نصرتها والدفاع عنها، والحجاج دونها، والرد على مخالفيها ومرد ذلك - فيما يلوح لى - إلى أن الباقلانى قد اندفع في كلامه بدافع المناصرة لمذهب الاشاعرة الذى كان يدين به.
والذى حدا شاعرنا إلى نفى السجع من القرآن أنهم ظنوا، بل تيقنوا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد ذم السجع في حديث الجنين.
ومن قصة هذا الحديث أن حمل بن مالك بن النابغة كان قد تزوج بامرأتين، يقال لاحداهما: مليكة بنت ساعدة، وللاخرى: أم عفيفة بنت مسروح، فتغايرتا كما هو الشأن دائما بين الضرتين، فضربت أم عفيفة مليكة بمسطح أو بعمود فسطاطها، وهى حامل فألقت جنينها، ورفعت قضيتها إلى النبي فقضى على عاقلة الضاربة بغرة: عبد أو أمة.
فقال أخوها العلاء بن مسروح: يا رسول الله، أنغرم من لا أكل ولا شرب ولا نطق ولا استهل، فمثل هذا يطل؟ ! فقال عليه السلام: " أسجع كسجع الجاهلية؟ " وقد روى قول النبي بعدة روايات، منها: " أسجع كسجع
ومن البديع في " الاستعارة " قول امرئ القيس: وليلٍ كموجِ البحرِ أرخى سُدُولُهُ * عليَّ بأنواع الهموم ليبتلي (1) فقلت له لما تمطى بِصُلبِهِ * وأَردَفَ أعجازاً وناءَ بكلكلِ / وهذه كلها استعارات أتى بها في ذكر طول الليل.
ومن ذلك قول النابغة: وصدر أراح الليلُ عازب همه * تضاعف فيه الحزن من كل جانبِ (2)
فاستعارة من أراحه الراعي إبله إلى مواضعها التي تأوي إليها بالليل.
وأخذ منه ابن الدمينة فقال: اقضى نهاري بالحديث وبالمُنَى * ويجمَعُني والهم بالليل جامعُ (3) ومن ذلك قول زهير: صحا القلبُ عن سلمى وأقصر باطله * وعرى أفراس الصبا ورواحله (4) ومن ذلك قول امرئ القيس: سَمَوتُ.
إليها بعدَ ما نام أهلها * سمو حباب الماء حالا على حال (5)
__________
(1) ديوانه ص 100 والبديع ص 24، 25 والصناعتين ص 217 والموازنة ص 11 والموشح ص 31 ودلائل الاعجاز 62 وطبقات الشعراء 71 السدول: الستور.
يبتلى: ينظر ما عندي من صبر أو جزع.
تمطى: امتد.
صلبه: وسطه.
أردف: أتبع.
أعجازه: مآخيره.
ناء: نهض.
الكلكل: الصدر.
(2) ديوانه ص 9 والبديع ص 26: والصناعتين ص 217 وفى الموشح ص 31 " قال الصولى ... جعل صدره مألفا للهموم، وجعلها كالنعم العازبة بالنهار عنه، الرائحة مع الليل إليه، كما تريح الرعاة السائمة بالليل إلى أماكنها.
وهو أول من وصف أن الهموم متزايدة بالليل ... " (3) البيت لابن الدمينة في ديوانه ص 17 والاغانى 15 / 154 والموشح ص 32 وصدره هناك: * أظل نهاري فيكم متعللا * وقد ورد منسوبا لقيس بن ذريح في الامالى 2 / 316 والاغانى 9 / 218 وإلى مجنون ليلى في مصارع العشاق ص 248 والاغانى 2 / 45 وقد صحح أبو الفرج نسبته إلى ابن الدمينة راجع الاغانى 9 / 218.
(4) البديع ص 26 والموازنة ص 11 والصناعتين 217 ومعاهد التنصيص 260 وديوانه ص 42 وفى س: " عن ليلى ".
(5) ديوانه ص 108.
(*)

الصفحة 74