كتاب إعجاز القرآن للباقلاني

المتفق على جودتها.
فمهد لذلك بالكلام على جودة شعر امرئ القيس وبراعته وفصاحته، وما ابتدعه في طرق الشعر، ثم عرض لنقد معلقته حيث يقول ص 243: " ونظم القرآن جنس متميز، وأسلوب متخصص، وقبيل عن النظير متخلص، فإذا شئت أن تعرف عظم شأنه، فتأمل ما نقوله في هذا الفصل لامرئ القيس في أجود أشعاره، وما نبين لك من عواره على التفصيل ".
ثم مضى في نقد المعلقة، وانتهى منه في ص 277 بعد أن بين أن " هذه القصيدة قد ترددت بين أبيات سوقية مبتذلة، وأبيات متوسطة، وأبيات ضعيفة مرذولة، وأبيات وحشية غامضة مستكرهة، وأبيات معدودة بديعة، وأن وحشيها مستنكر يروع السمع، ويهول القلب، ويكد اللسان، ويعبس معناه في وجه كل خاطر ويكفهر مطلعه على كل متأمل أو ناظر، ولا يقع بمثله التمدح والتفاصح ".
ثم قال ص 277: " وقد بينا لك أن هذه القصيدة ونظائرها تتفاوت في أبياتها تفاوتاً بيناً في الجودة والرداءة، والسلاسة والانعقاد، والسلامة والانحلال
والتمكن والاستصعاب، والتسهل والاسترسال، والتوحش والاستكراه، وله شركاء في نظائرها، ومنازعون في محاسنها، ومعارضون في بدائعها.
ولا سواء كلام ينحت من الصخر تارة، ويذوب تارة، ويتلون تلون الحرباء، ويختلف اختلاف الأهواء، ويكثر في تصرفه اضطرابه، وتتقاذف به أسبابه، وبين قول يجري في سبكه على نظام، وفي رصفه على منهاج، وفي وضعه على حد.
وفي صفائه على باب، وفي بهجته ورونقه على طريق، مختلفة مؤتلف، ومؤتلفه متحد، ومتباعده متقارب، وشارده مطيع، ومطيعه شارد، وهو على متصرفاته واحد لا يستصعب في حال، ولا يتعقد في شأن ".
ثم عرض لنظم القرآن ونهجه، فقال: " فأما نهج القرآن ونظمه، وتأليفه ورصفه، فإن العقول تتيه في جهته، وتحارفى بحره، وتضل دون وصفه.
ونحن نذكر لك في تفصيل هذا ما تستدل به على الغرض، وتستولي به على الأمد، وتصل به إلى المقصد، وتتصور إعجازه كما تتصور الشمس، وتتيقن تناهي بلاغته كما تتيقن الفجر، وأقرب عليك الغامض، وأسهل لك العسير ".
/ وكقول زهير: ومن بعض أطرافَ الزِّجاج فإنه * يُطيع العوالي ركبت كُلَّ لهذم (1) وكقول امرئ القيس: وما ذرفت عيناكِ إلا لتضربي * بسهميكِ في أعشارِ قلبٍ مُقَتَّلِ (2) وكقول عمرو بن معدي كرب: فلو أنَّ قومي أنطقتني رماحُهُمْ * نطقْتُ ولكنَّ الرماح أجرَّتِ (3) / وكقول القائل (4) بني عمنا لا تذكروا الشعر بعد ما * دفنتم بصحراء الغمير القوافيا (5)
__________
(1) ديوانه ص 31 الزجاج: جمع زج وهو الحديدة التى تركب في أسفل الرمح، والسنان يركب عاليته، والزج تركز به الرمح في الارض، والسنان يطعن به، قال أبو عبيدة: هذا مثل، يقول:
إن الزج ليس يطعن به، إنما الطعن بالسنان، فمن أبى الصلح وهو الزج الذى لا طعن به أعطى العوالي وهى التى بها الطعن.
راجع اللسان 3 / 110 والصناعين ص 279 وسر الفصاحة ص 221.
(2) ديوانه ص 97 والصناعتين ص 279 والعمدة 1 / 247 والميسر والقداح ص 122 وفى اللسان 6 / 249: " أراد بقوله: بسهميك ههنا، سهمي قداح الميسر، وهما المعلى والرقيب، فللمعلى سبعة أنصباء وللرقيب ثلاثة، فإذا فاز الرجل بهما غلب على جزور الميسر كلها، ولم يطمع غيره في شئ منها، وهى تقسم على عشرة أجزاء.
فالمعنى: أنها ضربت بسهامها على قلبه فخرج له السهمان، فغلبته على قلبه كله وفتنته فملكته ... وهذا التفسير في هذا البيت هو الصحيح.
ومقتل: مذلل ".
(3) شرح الحماسة للتبريزي 1 / 160 والبيان والتبيين 1 / 214 واللسان 5 / 196 وقال المرزوقى في شرح الحماسة 1 / 162: " يقول لو أن قومي أبلوا في الحرب واجتهدوا لافتخرت بهم وذكرت بلاءهم، ولكن رماحهم أجرت لساني، كما يجر لسان الفصيل.
وجعل الفعلين للرماح لان المراد مفهوم في أن التقصير كان منهم لا منها.
والاجرار: أن يشق لسان الفصيل للرماح فيجعل فيه عويد لئلا يرضع أمه ".
(4) هو الشميذر الحارثى، أو سويد بن صميع المرثدى، وكان قتل أخوه غيلة: فقتل قاتل أخيه نهارا في بعض الاسواق من الحضر.
كما في شرح الحماسة للمرزوقي 1 / 124 والتبريزي 1 / 119.
(5) قال المرزوقى: " يقول دعوا التفاخر في الشعر بالشعر، فإنكم قصرتم بصحرا الغمير ولم تبلوا فيها، فتنطلق ألسنتكم لدى المساجلة، وتستجيب قوافى الشعر لكم، إذا أردتم نظمها وإنشادها عند المنافرة والمحاكمة، لانكم أممتم قوافى الشعر ودفنتموها، فكما أن الميت لا يجيب إذا دعى، كذلك لا يجيبكم الشعر إذا أردتموه، مع سوء بلائكم وقبح آثاركم ".
(*)

الصفحة 79