كتاب إعجاز القرآن للباقلاني

وملاسته تلويا وتعقدا، فهذا فصل.
وفيه شئ آخر وهو: أن هذا الخطاب إنما يستقيم مهما خوطب به الخيال حال أقباله، فأما أن يحكي الحال التي كانت وسلفت
على هذه العيادة، ففيه عهدة، وفي تركيب الكلام عن هذا المعنى عقدة.
وهو لبراعته وحذقه في هذه الصنعة - يعلق نحو هذا الكلام، ولا ينظر في عواقبه، لأن ملاحة قوله تغطي على عيون الناظرين فيه نحو هذه الأمور.
ثم قوله: " فعل الذي نهواه أو لم يفعل "، ليست بكلمة رشيقة، ولا لفظة ظريفة، وإن كانت كسائر الكلام ".
ولست أشك في أن الباقلانى قد حاد عن جادة الصواب عند ما حكم بأن بيت الصنوبرى أخف من بيت البحترى.
وغنى عن البيان أن بيت الصنوبرى ثقيل بالغ الثقل، وحسبه أن يجتمع في شطره الاول " الزور من زور " وأن يكون في شطره الثاني كلمة " الدور "، ليأخذ سبيله إلى مستقره في حضيض الشعر الاوهد.
وأما نقد الباقلانى لبيت البحترى الثاني، فإنى أورده ليكون بيانا لمنهجه في نقده ولانه استطرد فيه إلى نقد امرئ القيس بنقد لطيف ذهب به، ولم يسبقه أحد إليه.
قال: " فأما بيته الثاني، فهو عظيم الموقع في البهجة، وبديع المأخذ، حسن الرواء، أنيق المنظر والمسمع، يملا القلب والفهم، ويفرح الخاطر، وتسرى بشاشته في العروق.
وكان البحتري يسمي نحو هذه الأبيات عروق الذهب، وفي نحوه ما يدل على براعته في الصناعة، وحذقه في البلاغة.
ومع هذا كله فيه ما نشرحه من الخلل، مع الديباجة الحسنة، والرونق المليح.
وذلك أنه جعل الخيال كالبرق لإشراقه في مسراه، كما يقال: إنه يسري كنسيم الصبا، فيطيب ما مر به كذلك يضئ ما مر حوله، وينور ما مر به.
وهذا غلو في الصنعة، إلا أن ذكره " بطن وجرة " حشو، وفي ذكره خلل، لأن النور القليل يؤثر في بطون الأرض وما اطمأن منها، بخلاف ما يؤثر في غيرها، فلم يكن من سبيله أن يربط ذلك ببطن وجرة.
وتحديده المكان - على الحشو - أحمد من تحديد امرئ القيس من ذكر " سقط اللوى بين الدخول فحومل، فتوضح فالمقراة " لم يقنع
بذكر حد، حتى حده بأربعة حدود، كأنه يريد بيع المنزل فيخشى أن أخلَّ
ومن المعنى الأول قول الشاعر: أهينُ لهم نفسي لأُّكرمها بهم * ولن تُكرم النفسُ التي لا تهينها (1) ومثله قول امرئ القيس: وتردى على صُم صِلاب ملاطِسٍ * شديداتِ عَقد ليناتِ مِتان (2) / وكقول النابغة: ولا يحسبون الخير لا شر بعده * ولا يحسبون الشرَّ ضربة لازب (3) وكقول زهير، وقد جمع فيه طباقين: بعزمة مأمورٍ مطيعٍ وآمرٍ * مُطاع، فلا يُلفى لحزمهمُ مثلُ (4)
وكقول الفرزدق: والشيب ينهض في الشباب كأنه * ليل يصيح بجانبيه نهار (5) ومما قيل فيه ثلاث تطبيقات قول جرير: وباسطِ خيرٍ فيكمُ بيمينه * وقابض شر عنكمُ بشماليا (6) وكقول رجل من بلعنبر (7) : يَجزون من ظلم أهل الظلم مغفرةً * ومن إِساءة أهل السوء إحسانا (8)
__________
(1) البيت لاعرابي حجب عن باب السلطان، كما في البيان والتبيين 2 / 189 وأمالى المرتضى 1 / 205 والصناعتين ص 240 (2) ديوانه ص 145 وفى اللسان 19 / 33: " ردت الخيل رديا ورديانا: رجمت الارض بحوافرها في سيرها وعدوها ".
والملاطس: جمع ملطس، وهو المعول الذى يكسر به الصخر.
وفى م: " مثانى ".
(3) ديوانه ص 45 والصناعتين 243 وفى اللسان 2 / 234: " واللازب: الثابت، وصار الشئ ضربة لازب، أي لازما.
هذه اللغة الجيدة وقد قالوها بالميم، والاول أفصح ".
(4) ديوانه ص 108 م " لعزمة ".
وك وس " فلا يلقى ".
(5) ديوانه ص 467 والكامل 1 / 18 والصناعتين ص 234 وفى ا " في السواد " والاغانى 19 / 16 والموشح 103 (6) ديوانه ص 605 والصناعتين 244 والوساطة ص 29 وسر الفصاحة ص 191 (7) هو قريط بن أنيف، كما في شرح الحماسة للتبريزي ص 8: " والعرب تقول: بلعنبر، وبنوا العنبر، وكذلك يفعلون فيما فيه ألف ولام إذا لم يكن ثم إدغام " (8) شرح المرزوقى 1 / 31 (*)

الصفحة 82