الاختلاف فيها، وإنما يقع الخلاف غالبا في تحليلها وتفسيرها، واستنتاح
الأحداث المترتبة عليها.
وهذا الخلاف ظاهرة إنسانية، وثمرة من ثمرات اختلاف العقول البشرية،
ومن هنا فليس ثمت غبار على المختلفين، ولا اعتراض على إبداء وجهة النظر
في مسالة ما، ولو ان اختلاف المؤرخين في معركة الحرة كان من هذا القبيل،
لكان علينا أن نسجل كل وجهات النظر مع التقدير والاحترام لأصحابها.
ولكن اختلاف المؤرخين في هذه المسالة يغاير تماما مواقفهم المتباينة
في المسائل الأخرى فنحن هنا امام معركة مثيرة، تشمئز منها النفوس، وتنفر
من هولها القلوب، لا لكثرة القتلى، ولا لبشاعة الحدث، ففي التاريخ من
المعارك ما هو أكثر منها إراقة للدماء، وابشع منها مأساة واحداتا، ولكن لأنها
قتال شرس بين المسلمين، ولأنها وقعت في المدينة المنورة المدينة المقدسة،
ولأن جيش الشام قد استباح المدينة ثلاثة ايام ينهب ويسلب ويعتدي ويدمر.
هذه العوامل التي صاحبت هذه المعركة، هي التي جعلت النفوس تشمئز
عند ذكرها، والقلوب تنفر من الاستماع إليها، وبالتالي شكلت نظرة المؤرخين
إليها وإلى قيادتها، فاحترام المسلمين لأهل المدينة جعلهم يتعاطفون معهم،
حتى ولو كانوا مخطئين في تقديرهم واتجاههم، وتقديس المسلمين للمدينة
أثار من نفوسهم بغض المعتدين عليها، والمنتهكين لحرمتها.
ولهذا فإننا نرى بعض المؤرخين يتعامل مع الحادث بعاطفة محضة،
وينسى واجبه كمؤرخ يجب ان يتعامل مع اي حدث بواقعية تبعده عن الانحياز
والميل غير المعتدل، ومنهم من انضمت إلى عاطفته الجياشة محبته وتشيعه
لآل البيت، وعداوته للنظام الحاكم، ولو كان على الحق.
وقليل هؤلاء الذين استطاعوا ان يتجردوا من عاطفتهم ولو إلى حين،
وأن يتناولوا الحادث كما يتناولون عادة الأحداث التاريخية، ويعالجوه من
جوانبه المختلفة، فيذكرون لكل فريق ما له وما عليه.
وهذا الفريق هو ما ينبغي أن يعتمد المؤرخ على رواياته، وأن يحتاط
226