كتاب المدينة المنورة معالم وحضارة

ومهما حاول الخلفاء اجتذاب الناس إلى مقرهم الجديد، فشجعوا
الشعرأء بالجوائز، واستقدموا العلماء وقدموهم، وانتقل ذوو المصالح إلى
المقر الجديد رغبة في نوال الخلفاء والتقرب إليهم، فإن جميع هؤلاء كانوا
يشعرون بحنين يذيب قلوبهم، وعاطفة تتأجج شوقا في صدورهم، وكانوا لا
يجدون إرواء هذا الحنين، ولا إطفاء هذا الشوق إلَّا في رحاب الحرم النبوي
في المدينة المنورة.
لقد ذبلت كل مطالب الدنيا في المدينة المنورة، وازدهرت كل مطالب
الاخرة في رحابها، ولم يصبر كثير من الناس على لأوائها، ومع ذلك كانت
خيرا لهم من غيرها.
يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يفتح اليمن، فيأتي قوم يبسون (1) فيتحملون
بأهليهم ومن أطاعهم والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون، ثم يفتح الشام،
فيأتي قوم يبسون فيتحملون بأهليهم ومن اطاعهم والمدينة خير لهم لو كانوا
يعلمون، تم يفتح العراق، فيأتي قوم يبسون فيتحملون بأهليهم ومن أطاعهم
والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون (2).
ذلك لأن المدينة وإن ضاقت فيها أسباب العيش، واشتد البلاء بأهلها،
غير أن أسباب الحياة الروحية متوفرة بما لا يوجد في غيرها، قد يجد الناس
ما يملؤون به بطونهم، وتظل أرواحهم خاوية، وقد يجد الناس ما يسترون به
عوراتهم، ولكن قلوبهم لا تزال عارية، وقد يجدون ما يرفهون به عن
أنفسهم، ولكن عقولهم لا تفتا قاصية، إن الحياة الحقيقية للإنسان ليست في
مطعم أو مشرب، ولا تتحقق له إنسانيته من خلال ترف أو ترفيه، ولكن
حقيقة حياته تتمثل في روج متصلة بالملأ الأعلى، وقلب عامر بالذكر
والتقوى، ونفس مملوءة باليقين والحكمة.
__________
(1) يبشون: يسيرون سيرا شديدا، والبسن: هو سوق الإبل.
(2) رواه مسلم، باب الترغيب في المقام بالمدينة عند فتح الأمصار.

الصفحة 6