كتاب قطف الجني الداني شرح مقدمة رسالة ابن أبي زيد القيرواني
ويُثبتُ ما يشاء، حتى خُتمت برسالة نبيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم، التي نَسخت جميع الشرائع قبلها، وفُسِّر بالأقدار التي هي في غير اللَّوح المحفوظ، كالذي يكون بأيدي الملائكة، وانظر: شفاء العليل لابن القيم، في الأبواب: الثاني والرابع والخامس والسادس، فقد ذكر في كلِّ باب تقديراً خاصًّا بعد التقدير في اللَّوح المحفوظ.
وأمَّا قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يَردُّ القضَاءَ إلاَّ الدعاءُ، ولا يزيد في العُمر إلاَّ البِرُّ" أخرجه الترمذي (2139) ، وحسنه، وانظر: السلسلة الصحيحة للألباني (154) ، فلا يدلُّ على تغيير ما في اللَّوح المحفوظ، وإنَّما يدلُّ على أنَّ اللهَ قدَّر السَّلامةَ من الشرور، وقدَّر أسباباً لتلك السَّلامة، والمعنى أنَّ اللهَ دفع عن العبد شرًّا؛ وذلك مقدَّرٌ بسببٍ يفعله وهو الدّعاء، وهو مقدَّرٌ، وكذلك قدَّر أن يطولَ عُمرُ الإنسان، وقدَّر أن يحصلَ منه سببُ لذلك، وهو البِرُّ وصلة الرَّحم، فالأسبابُ والمسبَّباتُ كلُّها بقضاء الله وقدره، وكذلك يُقال في قوله صلى الله عليه وسلم: "مَن سرَّه أن يُبسَط له في رزقه أو يُنسَأ له في أثره فليَصِلْ رَحِمَه" رواه البخاري (2067) ، ومسلم (2557) ، وأجَلُ كلّ إنسان مُقدَّرٌ في اللوح المحفوظ، لا يتقدَّم عنه ولا يتأخَّر، كما قال الله عزَّ وجلَّ: {وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا} ، وقال تعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} ، وكلُّ مَن مات أو قُتل فهو بأجله، ولا يُقال كما قالت المعتزلة: إنَّ المقتولَ قُطع عليه أجلُه، وأنَّه لو لَم يُقتَل لعاش إلى أجل آخر؛ فإنَّ كلَّ إنسان قدَّر الله له أجلاً واحداً، وقدَّر لهذا الأجل أسباباً، فهذا يموتُ بالمرض، وهذا يموت بالغرق، وهذا يموتُ بالقتل، وهكذا.
الصفحة 102
193