كتاب قطف الجني الداني شرح مقدمة رسالة ابن أبي زيد القيرواني
ارتفع صحَّ الاحتجاجُ بالقدر، وإذا كان اللَّومُ واقعاً فالاحتجاجُ بالقدر باطلٌ. . . ".
9 وقوله: "تعالَى أن يكونَ في مُلْكِهِ ما لا يُريد، أو يكونَ لأَحَد عنه غِنًى خالقاً لكلِّ شيءٍ إلاَّ هو، رَبُّ العباد ورَبُّ أعمالِهم، والمُقَدِّرُ لِحَركاتِهم وآجالِهم" الظاهر أنَّ في قولَه: "خالقاً لكلِّ شيء إلاَّ هو" سقطاً يدلُّ عليه ما قبله، تقديره: "وأن يكون خالقاً لكلِّ شيء إلاَّ هو" وفي هذه الجُمل كلِّها ردٌّ على القدرية الذين يقولون: إنَّ العبادَ يَخلقون أفعالَهم، وأنَّ اللهَ لم يُقدِّرها عليهم، فإنَّ مقتضى قولهم هذا أنَّ أفعالَ العباد وقعت في مُلك الله وهو لم يُقدِّرها، وأنَّهم بخلقهم لأفعالِهم مُستغنون عن الله، وأنَّ الله ليس خالقاً لكلِّ شيء، بل العباد خلقوا أفعالَهم، والله سبحانه وتعالَى خالق العباد وخالق أفعال العباد، فهو خالق الذوات والصفات، كما قال الله عزَّ وجلَّ: {قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} ، وقال: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} ، وقال: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} .
ويُقابل نفاةَ القدر فرقةٌ ضالَّةٌ هم الجبرية، الذين سَلَبُوا عن العبد الاختيارَ، ولَم يجعلوا له مشيئةً وإرداةً، وسَوَّوا بين الحركات الاختيارية والحركات الاضطرارية، وزعموا أنَّ كلَّ حركاتهم بمنْزلة حركات الأشجار، وأنَّ حركةَ الآكلِ والشارب والمصلِّي والصائم كحركة المُرتعش، ليس للإنسان فيها كسبٌ ولا إرادة، وعلى هذا فما فائدةُ إرسال الرُّسل وإنزال الكتب، ومن المعلوم قطعاً أنَّ للعبد مشيئةً وإرادةً، يُحمَد على أفعاله الحسنة، ويُثاب عليها، ويُذمُّ على أفعاله السيِّئة ويُعاقب عليها، وأفعالُه الاختيارية يُنسبُ إليه فعلُها وكسبُها، وأمَّا الحركات الاضطرارية
الصفحة 105
193