كتاب قطف الجني الداني شرح مقدمة رسالة ابن أبي زيد القيرواني

ولم يتعرَّض مع ذلك أحدٌ منهم إلى تأويل شيء من هذا، ورأوا بأجمعهم إجراء الصفات كما وردت، ولم يكن عند أحد منهم ما يستدلُّ به على وحدانية الله تعالى وعلى إثبات نبوَّة محمد صلى الله عليه وسلم سوى كتاب الله، ولا عرف أحدٌ منهم شيئاً من الطرق الكلامية ولا مسائل الفلسفة، فمضى عصرُ الصحابة رضي الله عنهم على هذا، إلى أن حدث في زمنهم القولُ بالقدر، وأنَّ الأمرَ أنفة، أي: أنَّ الله تعالى لم يُقدِّر على خلقه شيئاً مِمَّا هم عليه. . . ".
وهذا الذي أوضحه المقريزي هو ما كان عليه أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ظهور الفرق المختلفة، وقد قال صلى الله عليه وسلم في حديث العرباض بن سارية الذي مرَّ ذكرُه قريباً: "فإنَّه مَن يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسُنَّتِي وسُنَّة الخلفاء المهديِّين الراشدين، تمسَّكوا بها وعضُّوا عليها بالنواجذ، وإيَّاكم ومحدثات الأمور؛ فإنَّ كلَّ محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة".
وليس من المعقول أن يُقال في شيء من مذاهب هذه الفرق المختلفة في العقيدة التي حدثت في أواخر عهد الصحابة وبعده، كالقدرية والمرجئة والأشاعرة وغيرها، ليس من المعقول أن يُقال في شيء من ذلك: إنَّه الحقُّ والصواب، بل الحقّ الذي لا شكَّ فيه هو ما كان عليه أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو كان شيء من هذه المذاهب حقًّا لسبقوا إليه رضي الله عنهم وأرضاهم، فلا يُعقل أن يُحجب حقٌّ عن الصحابة ويُدَّخر لأناس يجيئون بعدهم، قال إبراهيم النخعي كما في جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر (1/97) : "لَم يُدخَّر لكم شيءٌ خُبِّئَ من القوم لفضل عندكم".
وقد نقل الحافظ ابن حجر في الفتح عند شرحه باب قول الله تعالى:

الصفحة 15