كتاب قطف الجني الداني شرح مقدمة رسالة ابن أبي زيد القيرواني

النبيُّون والصدِّيقون والشهداء والصالِحون، الذين هم أهل التوحيد، ويسأله أن يُجنِّبَه طريقَ المغضوب عليهم والضالِّين، الذين لَم يحصل منهم التوحيدُ، بل حصل منهم الشِّركُ بالله وعبادةُ غيره معه.
وأمَّا سورة الناس، فقوله: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} فيه إثباتُ أنواع التوحيد الثلاثة؛ فإنَّ الاستعاذةَ بالله من توحيد الألوهيَّة.
و {بِرَبِّ النَّاسِ} فيه إثبات توحيد الربوبيَّة وتوحيد الأسماء والصفات، وهو مثل قول الله عزَّ وجلَّ في أول الفاتحة: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}
وقوله: {بِرَبِّ النَّاسِ} فيه إثباتُ الربوبيَّة والأسماء والصفات.
و {إِلَهِ النَّاسِ} فيه إثبات الألوهية والأسماء والصفات.
والنسبةُ بين أنواع التوحيد الثلاثة هذه أن يُقال: إنَّ توحيدَ الربوبيَّة وتوحيدَ الأسماء والصفات مستلزمان لتوحيد الألوهية، وتوحيد الألوهيَّة متضمِّنٌ لهما، والمعنى أنَّ مَن أقرَّ بالألوهيَّة فإنَّه يكونُ مُقرًّا بتوحيد الربوبيَّة وبتوحيد الأسماء والصفات؛ لأنَّ مَن أقرَّ بأنَّ اللهَ هو المعبودُ وحده فخصَّه بالعبادة ولم يجعل له شريكاً فيها، لا يكون منكراً بأنَّ اللهَ هو الخالقُ الرازقُ المُحيي المميتُ، وأنَّ له الأسماء الحسنى والصفات العُلَى.
وأمَّا مَن أقرَّ بتوحيد الربوبيَّة وتوحيد الأسماء والصفات، فإنَّه يلزمه أن يُقرَّ بتوحيد الألوهيَّة، وقد أقرَّ الكفَّارُ الذين بُعث فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بتوحيد الربُوبيَّة، فلَم يُدخلهم هذا الإقرارُ في الإسلام، بل قاتَلَهم حتى يَعبدوا اللهَ وحده لا شريك له، ولهذا يأتي كثيراً في القرآن تقريرُ توحيد الربوبيَّة الذي أقرَّ به الكفَّارُ؛ لإلزامهم بالإقرار بتوحيد الألوهيَّة، ومن أمثلة ذلك قول الله عزَّ وجلَّ: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ

الصفحة 58