كتاب قطف الجني الداني شرح مقدمة رسالة ابن أبي زيد القيرواني
لقول الله عزَّ وجلَّ: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} ، ولو وُجد العملُ خالصاً لله لكنَّه لَم يُبْنَ على سُنَّة، بل بُنِيَ على البدع والمحدثات فإنَّه مردودٌ على صاحبه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتَّفق على صحَّته عن عائشة رضي الله عنها: أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "مَن أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردٌّ"، وفي لفظ لمسلم: "من عمل عملاً ليس عليه أمرُنا فهو ردٌّ"، أي: مردودٌ عليه غير مقبول منه.
ولا يُقال: إنَّ العملَ إذا كان خالصاً لله، ولم يكن مبنيًّا على سُنَّة، وكان قَصدُ صاحبه حسناً أنَّه محمودٌ ونافعٌ لصاحبه، ومِمَّا يدلُّ على ذلك أنَّ الرَّسولَ الكريم صلى الله عليه وسلم قال للصحابيِّ الذي ذبح أُضحيتَه قبل صلاة العيد: "شاتُك شاةُ لَحم"، فلَم يعتبرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أُضحيةً؛ لأنَّها ذُبحَت قبل ابتداء وقت الذَّبح الذي يبدأ بعد صلاة العيد، والحديثُ أخرجه البخاري (5556) ، ومسلم (1961) ، وقد قال الحافظ في شرحه في الفتح (10/17) : "قال الشيخ أبو محمد بن أبي جَمرة: وفيه أنَّ العملَ وإن وافق نيَّةً حسنةً لَم يصحَّ، إلاَّ إذا وقع على وفق الشَّرع".
وفي سنن الدارمي (1/68 69) أنَّ عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وقف على أناس في المسجد مُتحلِّقين وبأيديهم حصًى، يقول أحدهم: كبِّروا مائة، فيُكبِّرون مائة، فيقول: هلِّلوا مائة، فيُهلِّلون مائة، ويقول: سبِّحوا مائة، فيُسبِّحون مائة، فقال: "ما هذا الذي أراكم تصنعون؟ قالوا: يا أبا عبد الرحمن! حصى نعدُّ به التكبيرَ والتهليلَ والتسبيحَ، قال: فعُدوا سيِّئاتكم فأنا ضامنٌ أن لا يَضيعَ من حسناتكم شيءٌ، وَيْحَكم يا أمّة محمد! ما أسرع هلكتكم! هؤلاء صحابةُ نبيِّكم صلى الله عليه وسلم متوافرون، وهذه ثيابُه لم تَبْلَ، وآنيتُه لم تُكسر، والذي نفسي بيده إنَّكم لَعلَى مِلَّةٍ هي أهدى من مِلَّة
الصفحة 60
193