كتاب قطف الجني الداني شرح مقدمة رسالة ابن أبي زيد القيرواني

جاء ذلك واضحاً في الأثر المشهور عن مالك – رحمه الله – عندما سُئل عن كيفية الاستواء، فقال: "الاستواءُ معلومٌ، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة".
ومعنى كلام ابن أبي زيد أنَّه لا يستطيع أحدٌ أن يصف اللهَ بما هو عليه، بأن يعرفَ كيفيةَ اتِّصافه بالصفات؛ لأنَّ ذلك من الغيب الذي لا يعلمه إلاَّ هو.
وقوله: "ولا يحيط بأمره المتفكِّرون"، أمرُ الله منه ما هو كونيٌّ قَدَري، ومنه ما هو دينِيٌّ شرعي، فالكونيُّ مثل قول الله عزَّ وجلَّ: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} ، والشرعيُّ مثل قوله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى}
وكلٌّ من الأمر الكونيِّ والأمر الشرعي مشتملٌ على حكمة، فما قدَّره الله فلحكمة، وما شرعه الله فلحكمة، وقد يعلم العبادُ شيئاً من الحكم في الأمر الكوني القَدري والأمر الشرعي، ولكنَّهم لا يحيطون بحِكَم الله في خلقه وشرعه،؛ فإنَّ الواجبَ الإيمانُ بالقدر، والاستسلامُ للأمر والنهي، سواء عرف العبادُ حِكَم ذلك أم لَم يعرفوها.
ولكنَّهم إذا عرفوا شيئاً من ذلك زاد إيمانُهم ويقينُهم، وإذا لم يعرفوا الحكمةَ في القدر والشرع فإنَّ ذلك لا يثنيهم عن القيام بما هو واجبٌ عليهم من الإيمان بالقدر والانقياد للأحكام الشرعية.
والذي اشتمل عليه كلامُ ابن أبي زيد – رحمه الله – نفيُ الإحاطة بالحِكَم والأسرار؛ لتعبيره بقوله: "المتفكِّرون" وليس المقصود معرفة الأحكام الشرعية؛ فإنَّ ذلك مطلوبٌ فيه العلم والعمل؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في

الصفحة 66