كتاب قطف الجني الداني شرح مقدمة رسالة ابن أبي زيد القيرواني
وقد مرَّ قريباً أنَّ اسمَ العليِّ يأتي مقترناً باسم الكبير، ومرَّ ذكر بعضُ الآيات في ذلك، ومنها أيضاً قول الله عزَّ وجلَّ: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ}
6 قوله: "وَأنَّه فوقَ عَرشه المجيد بذاته، وهو في كلِّ مَكان بعِلمه".
لَمَّا ذكر ابن أبي زيد – رحمه الله – أنَّ من أسماء الله العليّ، وقد ذكره قريباً مقترناً باسم العظيم، وباسم الكبير، بيَّن في هذا أنَّ علوَّ الله عزَّ وجلَّ وفوقيَّتَه على عرشه أنَّه علوٌّ بالذَّات، كما أنَّه عليٌّ بالقدر وعليٌّ بالقهر، وإنَّما نصَّ على علوِّه على عرشه بذاته لمَّا وُجد من يقول: إنَّ علوَّ الله علوُّ قدرٍ وعلوُّ قهرٍ، وأوَّلَ علوَّه على عرشه باستيلائه عليه، وأنَّه ليس على العرش حقيقةً بذاته، فعبَّر بعلوِّ الذَّات ردًّا على من قال: إنَّه علوٌّ مجازيٌّ وليس بحقيقيّ، وهذا نظيرُ قولِ السَّلف عن القرآن إنَّه غيرُ مخلوقٍ لمَّا وُجد من يقول: إنَّه مخلوقٌ.
وأمَّا قوله: "وهو في كلِّ مكانٍ بعلمه" فهو لنفي القولِ بالحلول والاتِّحاد، وهو أنَّ اللهَ حالٌّ في المخلوقات، متَّحدٌ معها، مختلِطٌ بها؛ فإنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ الخالقُ، وكلُّ ما سواه مخلوقٌ، والمخلوقاتُ كلُّها كانت عدماً فأوجدها اللهُ، ووُجودُها مبايِنٌ لوجودِ الله، وهو سبحانه وتعالى بائنٌ من خلقه، ليست المخلوقاتُ حالَّةً في الله، ولا الخالقُ حالاًّ في المخلوقات.
ومعيَّةُ الله فُسِّرتْ بأنَّها معيَّةٌ بالعلم، كما قال ابنُ أبي زيد القيرواني هنا، قال اللهُ عزَّ وجلَّ: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ
الصفحة 74
193