كتاب قطف الجني الداني شرح مقدمة رسالة ابن أبي زيد القيرواني

مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} ، فقد بُدئت هذه الآيةُ بالعلم، وخُتمت بالعلم.
وفُسِّرتْ بأنَّها معيَّةٌ حقيقيَّةٌ، والمعنى أنَّ اللهَ فوق عرشه بذاته، وهو مع خلقه دون امتزاجٍ أو اختلاطٍ؛ فإنَّ المخلوقاتِ صغيرةٌ حقيرةٌ أمام عظمة الله وكبريائه، واللهُ عزَّ وجلَّ مع كونه فوق عرشه، فهو قريبٌ من عباده، قال شيخُ الإسلام ابن تيمية في الواسطيَّة: "وقد دخل فيما ذكرناه من الإيمان بالله الإيمانُ بما أخبر اللهُ به في كتابه وتواتر عن رسوله صلى الله عليه وسلم وأجمع عليه سلفُ الأمَّة، مِن أنَّه سبحانه فوق سماواته على عرشه، عليٌّ على خلقه، وهو سبحانه معهم أينما كانوا، يعلم ما هم عاملون، كما جمع بين ذلك في قوله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} ، وليس معنى قوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ} أنَّه مختلطٌ بالخَلْق، فإنَّ هذا لا توجبُه اللُّغة، وهو خلاف ما أجمع عليه سلفُ الأمَّة، وخلاف ما فَطَرَ الله عليه الخلقَ، بل القمر آيةٌ من آيات الله، من أصغر مخلوقاته، وهو موضوعٌ في السماء، وهو مع المسافر وغير المسافر أينما كان، وهو سبحانه فوق العرش، رقيبٌ على خلقه، مُهيمنٌ عليهم، مطَّلعٌ إليهم، إلى غير ذلك من معاني ربوبيته، وكلُّ هذا الكلام الذي ذكره الله سبحانه من أنَّه فوق العرش وأنَّه معنا حقٌّ على حقيقته، لا يحتاج إلى تحريف، لكن يُصانُ عن الظنون الكاذبة، مثل أن يُظنَّ أنَّ ظاهرَ قوله (في السماء) أنَّ السماء تُقلُّه أو تُظلُّه، وهذا باطلٌ

الصفحة 75