كتاب قطف الجني الداني شرح مقدمة رسالة ابن أبي زيد القيرواني

يستفد بالاختبار شيئاً لم يكن عالِماً به، سبحانه وتعالى عن ذلك علوًّا كبيراً؛ لأنَّ العليمَ بذات الصدور غنِيٌّ عن الاختبار، وفي هذه الآية بيانٌ عظيمٌ لجميع الآيات التي يَذكر الله فيها اختبارَه لخلقه، ومعنى {إِلَّا لِنَعْلَمَ} أي: علماً يترتَّبُ عليه الثواب والعقاب، فلا يُنافي أنَّه كان عالِماً به قبل ذلك، وفائدةُ الاختبار ظهور الأمر للناس، أما عالِمُ السِّرِّ والنَّجوى فهو عالِمٌ بكلِّ ما سيكون كما لا يخفى".
وأمَّا قول الله عزَّ وجلَّ: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} ، فقد فُسِّر بتفسيرين:
أحدهما: قُربُه بالعلم والقُدرة والإحاطة، وهذا الذي يظهر من كلام ابن أبي زيد رحمه الله.
والثاني: قُربُ الملائكة، نظير قوله في الواقعة: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ} ، وقد رجَّحه ابن كثير في تفسيره، وابن القيم كما في مختصر الصواعق (2/268) ، وقد جاء في القرآن الكريم ذكرُ الضمير بلفظ التعظيم والمرادُ به الملائكة، كما في قول الله عزَّ وجلَّ: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} ، والذي قرأه على الرسول صلى الله عليه وسلم جبريلُ، وقوله: {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ} ، وهو إنَّما جادل الملائكة، كما قال الله عزَّ وجلَّ {وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطاً قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا} الآية.

الصفحة 78