كتاب قطف الجني الداني شرح مقدمة رسالة ابن أبي زيد القيرواني
شجر أقلاماً يُكتبُ بها، فلا بدَّ أن تنفدَ البحورُ والأقلامُ؛ لأنَّها مخلوقةٌ محصورةٌ، ولا ينفدُ كلام الله الذي هو غير مخلوق ولا محصور، والقرآن من كلام الله، والتوراة والإنجيل من كلام الله، وكلُّ كتاب أنزله الله فهو من كلامه، وكلامُه غيرُ مخلوق، فلا يَحصل له الفناءُ الذي يحصل للمخلوقات، وهو صفة الخالق الذي لا نهاية له فلا ينفدُ كلامُه، والمخلوقون يَبيدون فينفدُ كلامُهم.
وأمَّا قوله: "وتجلَّى للجبل فصار دكًّا من جلاله" فقد قال الله عزَّ وجلَّ: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} ، وفي هذه الآية الكريمة إثباتُ حصول الكلام من الله لموسى عندما جاء لميقات ربِّه، وفيها أنَّ موسى لَمَّا سمع كلام الله طمِعَ في الرؤية فسألَها، فلَم تحصل؛ لأنَّ اللهَ شاء أن تكون رؤيتُه في الدار الآخرة، وهي أكملُ نعيم يَحصُلُ لأهل الجنَّة، وشاء أن لا تقوى الأبصارُ في هذه الحياة الدنيا على رؤيته، ولهذا قال الله عزَّ وجلَّ لموسى: {لَنْ تَرَانِي} ، أي: في الدنيا، بل إنَّ الجبلَ مع صلابَته لَم يثبت أمام تَجَلِّي الله، فصار دكًّا، وأمَّا في الدار الآخرة فإنَّه سبحانه وتعالى يجعل عبادَه المؤمنين قادرين على رؤيته؛ بما يُعطيهم من القوَّة على ذلك، ويدلُّ لعدم رؤية الله عزَّ وجلَّ في الدنيا قوله صلى الله عليه وسلم: "تعلموا أنَّه لن يرَى أحدٌ منكم ربَّه عزَّ وجلَّ حتى يموت" رواه مسلم (2930) .
الصفحة 95
193