كتاب البلغة في تراجم أئمة النحو واللغة

ومما ينهيه إلى العلوم الشريفة أنه غير خاف عليكم ضعف أقل العبيد، ورقة جسمه، ودقة بنيته، وعلو سنه وقد آل أمره إلى أن صار كالمسافر الذي تحزم وانتقل إذ وهن العظم، بل والرأس يشتعل، وتضعضع السن، وتقعقع الشن، فما هو إلا عظام في جراب، وبنيان مشرف على خراب، وقد ناهز العشر التي تسميها العرب دقاقة الرقاب، وقد مر على المسامع الشريفة غير مرة في صحيح البخاري قول سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا بلغ المرء ستين سنة فقد أعذر الله إليه". فكيف من نيف على السبعين. وأشرف على الثمانين؟ ولا يجمل بالمؤمن أن تمضي عليه أربع سنين ولا يتجدد له شوق وعزم إلى بيت رب العالمين وزيارة سيد المرسلين وقد ثبت في الحديث النبوي ذلك، وأقل العبيد له ست سنين عن تلك المسالك وقد غلب عليه الشوق حتى جل عمره عن الطوق، ومن أقصى أمنيته أن يجدد العهد بتلك المعاهد ويفوز مرة أخرى بتقبيل تلك المشاهد، وسؤاله من المراحم الحسنية الصدقة عليه بتجهيزه في هذه الأيام مجردا عن الأهالي والأقوام قبل اشتداد الحر، وغلبة الأوام. فإن الفضل أطيب والريح أزيب1، ومن الممكن أن يفوز الإنسان بإقامة شهر في كل حرم. وسيحظى بالتملي من مهابط الرحمة والكرم، وأيضا كان من عادة الخلفاء سلفا وخلفا أنهم كانوا يبردون البريد عمدا قصدا لتبليغ سلامهم إلى حضره سيد المرسلين، صلوات الله وسلامه عليه مددا، فاجعلني، جعلني الله فداك، ذاك البريد فلا أتمنى شيئا سواه ولا أريد:
شوقي إلى الكعبة الغراء قد زادا ... فاستحمل القلص الوجادة الزادا
واستأذن الملك المنعام زيد على ... واستودع الله أصحابا وأولادا
فلما وصل هذا إلى السلطان، كتب في طرة الكتاب ما مثاله:
"صدر الجمال المصري على لسان ما يحققه لك شفاها. إن هذا شيء لا ينطق به لساني، ولا يجري به قلمي، فقد كانت اليمن عمياء فاستنارت، فكيف
__________
1 أي أنشط.

الصفحة 21