المقصود هو العربي الذي خطط المدنَ بعد الإسلام، فإذا كان الحديث
النقدي خاصّاً بالبدوي قبل الإسلام، (وهذا خطأٌ واضح حاول الأستاذ
ردّه) فلماذا لم يقل الأستاذ لهذا الناقد الجريء: أين القصور التي هدمها
البدوفيُ في الجاهلية وجعلها أداةً للوقود والبناء؟.
إنّ البادية لم تكن ذات قصور حتى يحدث ذلك، ولو وُجدت
لأغنتْه عن نصب الخيام، وصُنع الأوتاد من خشب السقوف، فهذا تَجن
لا شك فيه؟.
وأما حضارة العرب في إنشاء المدن بعد الإسلام فلا ينكرها إلا
جاحدٌ يجهل عظمة دمشق وبغداد والقاهرة والقيروان، وقد كانت جميعُها
ايامَ العرة العربية أروعَ مثلٍ للازدهار، وما وُجد قبل الإسلام مثل مدينة
دمشق فقد ازداد رونقاً وبهاءً، بحيث لا يقاس غابره بحاضره! أجدفي الان
أخاطب ابن خلدون بقول الشاعر العربي (الجاهلي):
وظلمُ ذوي القربى أشدُ مضاضةً على الئفْسِ مِنْ وَقعِ الحُسامِ المُهَئدِ
ثم لماذا يكون العربي البدوفيُ مادئاً، لا يعرف المعاني الإنسانية،
وقد شهدتْ له صحائف التاريخ بالكرم والإيثار والوفاء والتضحية وحماية
الجار، والذود عن الحرمات، والشجاعة، أليست هذه فضائل روحية
لا توجد اليوم في أعرق مدن الحضارات، وهل في متمدني اليوم مَن
ينطبق عليه قول القائل:
ويكادُ سيّدُهم يجودُ بنفسِه حين القِرى حطباً على النيرانِ!
وهو قولٌ إذا كان ذا خيال تصويري، فقد جاء الخيالُ رسماً لفضيلةٍ
معنويّةٍ بلغت مبلغها الكبيرِ في إسعافِ الجائعِ وعونِ المْقيرِ.
56