كتاب محمد حسين هيكل الأديب السياسي المؤرخ ورائد الكتابة

لقد جلا هيكلُ شمائلَ الفاروق بما يُعدُّ جديداً جديداً، لا لأنه
اخترعه او نقله عن مخطوط لم يقرأه أحد من قبله، بل لأنه عرضه في صُورٍ
مؤثّرة نفّاذة، تأخذُ بمجامع القلوب، فكلنا - مثلاً - يعرفُ رحمة الفاروق
بالرعية، يعرف حمله الطعام على ظهره في غسق الليل لامراة فقيرة تلدُ
دون معين، يعرفُ انه يحمل الماءَ لامرأةٍ من الأنصار سمعها تطلب السّقيا
ليلاً دون ان تجد المعين، نعرف انه يحمل الدواءَ لمريضٍ وجدهُ في قارعة
الطريق يتألّم لجرح اصابه، نعرف ذلك كله جميعاً، ولكني وجدت أبلغ
منه واوقع منه في نفسي في بعض ما ذكره هيكل من مواقفه الرحيمة التي لم
أكن أعلمُ عنها شيئاً من قبل، ومن ذلك، أنَّ نفراً من المجاهدين تعاظمهم
الفزع يوم الجسر في معارك فارس، إذ فزعوا من الأفيال التي لم يشهدوها
من قبلُ، ثم سقط الجسر، فحصد مئات الأرواح، وتشاءم بعضُ القوم،
وفرّ منهم من فر، ولم يجرؤوا على الذهاب إلى المدينة استحياء من
الناس، وخيفةً من بطش عمر، ولكن الفاروق الرحيم ادركَ الأمرَ على
حقيقته، وعلم انّ الناس هم الناس شجاعةً وخوراً، وإقداماً وإحجاماً،
فعذر الفارين، ودعاهم إلى المدينة مشفقاً راحماً، يقول ا لدكتور هيكل (1):
"كان اول من قدم المدينة من المسلمين الذين شهدوا غزوة الجسر
عبد اللّه بن زيد، وقد راه عمر بن الخطاب حين دخل المسجد فناد 51،
ما عندك يا عبد اللّه؟ وسار عبد الله، والقى الخبر عليه، فلم يُبْدِ جزعاً،
بل تلقاه ساكناً، ودخل بعض الذين فروا من الغزاة إلى المدينة منكّسي
رؤوسهم خزياً من عار الهزيمة والفرار، اما سائرهم فنزلوا البوادي حياءً
ان يلقوا أهلهم، فيعيّروهم بفرارهم وجبنهم، ورأى عمر حالهم فرقّ لهم
(1) ا لفاروق: 1/ 6 1 1.
122

الصفحة 122