كتاب محمد حسين هيكل الأديب السياسي المؤرخ ورائد الكتابة

"أولُ ما يشعر به محدّث الدكتور هيكل، وقارئه على السواء، هو
إبعاده في النظر، وإمعانه في التفكير، حتى يرثي المرءُ له ولأمئاله - وامثالهُ
قليل - على ما بذلوا في ذلك من جهدٍ، وما عانوا من تعبِ وكدٍّ في إنفاذ
الفكر إلى هذا الحد، فكيفَ بهم إذا كانوا على هذا في كل ما كتبوا
وما استظهروا؟ وفي كل ما تصوّروا وصوّروا؟ وكيف لعمري احتملتْ
اعصابُهم كل هذا؟ وكيف واتتهم الأذهان به على شدة الشحذ والاعتسار
في الزمن الطويل؟ والواقع انّه لا كدّ هناك، ولا إرهاقَ عصب، ولا أيّ
حمل على الذهن، إنما هى الموهبة تجلو على أيسر النظر ما يتعاصى،
ولو مع الجهد والمطاولة على كثير من الأفكار، وذلك فضلُ اللّه يؤتيه من
يشاء! ".
يقتحمُ الدكتور هيكل موضوعه، وقد تسلّح له بذخيرة الفوز،
فعناصره واضحة في ذهنه، وصوره تواكب المعاني من غير تصنع ولا
افتعال، وألفاظه تتدفق كالسيل وراء معانيه لا يعوقها عائق، ودراستهُ
القانونية قد مَهّدت له سبيل المنطق في ترتيب المعاني، فهو يبتدئ بمقدمة
كاشفة ذاتِ دلالة، يعرفُ منها القارئ الألمعيُّ ما ينتظر أن يقوله الكاتب
الكبيرِ مُجْمَلاَ، ثم يأتي العَرضُ المتدفق كالسيل الجارف، فإذا القارئ
! شا ما كان ينتظمُ لعضه على وحه التخمين، فيكونُ ما تصوره من قل
- بع هـ. .
قطراتِ غابتْ في تيّار صاخب ينتقلُ في الخضم موجةَ إثر موجة، وما يزال
القلم الساحر يجيشُ ويهدر ويتسع وينداح، حتى يبلغَ غايته، فتأتي الخاتمةُ
دقيقةَ مركّزةَ لخلاصة ما يعنيه الكاتب الكبير.
هذا في المقال الموضوعي، أمّا المقال الذاتي حين يصف الكاتبُ
رحلةَ، او يصور مشهداَ من مشاهد الطبيعة، أو يكشف عاطفةَ صادقةَ
45

الصفحة 45