كتاب محمد حسين هيكل الأديب السياسي المؤرخ ورائد الكتابة

و (في منزل الوحي) مثلاً أعلى للبيان المشرق، وإنّ القارئ ليتلوَ ما كتب
الدكتور هيكل في هذا المجال من روائع، فيرى نور النبوة يتألق في السطور
تألقاً يرتفعُ به إلى ذروة ا لإبداع، بلْ إنّ أسلوبَ القراَن نفسه قد اختلط بشغافِ
قلب الكاتب الكبير، فانثالَ على لسانه في كثير مما سجلته هذه الصفحات
المشرقات، فإذا أراد القارئ نموذجاً لهذا التأئير الذي يعتصم بنقل الجمل
نقلاً ذا إشعاعٍ منيرٍ، فليستمعْ إلى بعض وصفه لمشهد الحُجاج، وهم
يُحْرِمون في طريقهم إلى بيت الله، حيث يقول في كتابه (في منزل ا لوحي):
"طَبع هذا المنظر أعمقَ الأئر في نفسي، فهذه القوافل من المُشاة
والركبان، تقصدُ إلى غايةٍ واحدةٍ، وترجو من ربّها الرجاءَ الأسمى، ليس
يَذْكر احد ماله من ثروة او جاه أو ولد، وإنّما يذكرُ أنّه وهؤلاء المسافرين
معه، إخو في الله، وائهم جميعاً قد أتوا قاصدين إليه، ملئين داعِيه،
ليُشهدوه على أنفسهم، وليطّهروا بين يديه مما قدمت أيديهم، وليبدؤوا
بذلك حياةً جديدة، يبتغون بها فيما اَتاهم الله الدار الاَخرة، ولا ينسوْن
نصيبهم من الحياة الدنيا، ويُحسنون كما أحسنَ الله إليهم، ولا يبتغونَ
الفساد في الأرض، ولهذا جاؤوا من كل فج عميق، ولهذا ركبوا البحر
والبز، واستهانوا بالمشقة، ونسوا كلَّ شيءٍ إلا الله، ولهذا أحرموا إيذاناً
بأن أقربهم إلى الله اتقاهم، ومظهراً لميلادهم الروحي الجديد، ليتخذوا
من هذا الميلاد عدّة لحياة جديدة، ولهذا تتّصل قلوبهم، وإن اختلفتْ
أجسامهم وألْوانُهم ولهجاتهم، وهمْ يُعبّرون عن هذا الشعور بالتلبية،
تنفرجُ بها شفاههم في حبور وغبطة، مطمئنين إلى رحمة الله ومغفرته، إته
يغفر الذنوب جميعاً، لا يغفر أنْ يُشرك به، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ".
هذا نمط من الأسلوب البياني للدكتور هيكل في عهده التالي،
67

الصفحة 67