كتاب علي الطنطاوي أديب الفقهاء وفقيه الأدباء

أ أعماق الخزانة قبراً كالذي يُدفن فيه الأموات. حتى جاءني من سنة واحدة
1اخ عزيز، هو في السن صغير مثل ولدي، ولكنه في الفضل كبير، فما زال
إي يفتلني في الذروة والغارب (كما كان يقول الأولون)، يحاصرني باللفظ
1 الحلو، والحجة المقنعة، والإلحاح المقبول؟ يريدني على أن أعود إلى
الميت فأنفض عنه التراب وأمزق من حوله الكفن، وأنا أحاول أن أتخلص
اوأن أتملص، حتى عجزت فوافقت على أن أكتب عنده ذكرياتي. فيا زهير:
اشكرك؟ فلولاك ما كتبت ".
لقد استجاب جدي لهذا الإلحاح وهو لا يتصور ما هو مقدم عليه،
وأكاد أجزم أنه لو كان يعلم لأحجم وما أقدم، فقد هونوا عليه الأمر
- بداية - حتى راح يتحدث وهم يكتبون ما يقول، وظهرت في مجلة
"المسلمون " حلقتان كذلك، ولكنه ما لبث أن استثيرت همته ودبت فيه
الحماسة فتحول إلى كتابة الحلقات بنفسه، ومضى فيها تجز كل حلقة
حلقة بعدها حتى قاربت ربع ألف حلقة. وأحسب أنه لو لم يوافق - في
ذلك اليوم - على الشروع بهذا المشروع لما راينا هذه الذكريات بين أيدينا
ابدأ.
لقد كانت كتابتها املاً من آمال جدي العظام كما فلت، وها هو ذ ا
يحدثنا عنها في مقدمتها في اول الجزء ا لأول: " هذه ذكرياتي؟ حملتها طول
حياتي، وكنت أعدها اغلى مقتنياتي، لأجد فيها - يومأ - نفسي وأسترجع
امسي، كما يحمل قربةَ الماء سالكُ المفازة لترذ عنه الموت عطشأ. ولكن
طال الطريق وانثقبت القربة، فكلما خطوت خطوة قطرتْ منها قطرة، حتى
إذا قارب ماؤها النفاد، وثقل عليئ الحمل، وكل مني الساعد، جاء مَن يرتق
خرقها، ويحمل عني ثقلها، ويحفظ لي ما بقي فيها من مائها؟ وكان اسمه
زهير الأيوبي. جاءني يطلب مني ان ادؤن ذكرياتي. . وكان نشرُ هذه
الذكريات إحدى امانيئ الكبار في الحياة، ولطالما عزمت عليها ثم شُغلت
عنها، واعلنت عنها لأربط نفسي بها فلا أهرب منها ثم لم اكتبها، بل انا لم
127

الصفحة 127