همن أجل ذلك فكر في ترك الدراسة واتجه إلى التجارة، ولكن الله صرفه
لمعن هذا الطريق وعاد إلى الدراسة ليكمل طريقه فيها. "لقد فقدت أبي وأنا
في مطلع الشباب، واضطررت إلى أن أكتسب قبل سن الاكتساب،
وتعلمت ودرست على ضيق الحال وقفة الأسباب، وأكرمني الله فعلمني
وكفاني، فما أحوجني أن أمدّ يدي يومأ إلى أحد ممّن خلق الله " (1).
ثم ماتت أمه وهو في الرابعة والعشرين، فكانت تلك واحدة من
! كبر الصدمات التي تلقاها في حياته. ولقد شهدتُه مراراً يذكرها ويذكر
موتها - وقد مضى على موتها اكثر من ستين سنة - وأشهد ما كان ذلك إلا
وفاضت عيناه. وما أحسبه كتب الفصل الذي وصف فيه موتها في
ذكرياته (2) إلا عاش ذلك اليوم بمرارته وآلامه من وراء حجابِ نصفِ قرنٍ
من الزمان:
"وجاء اليوم الأسود، وكا ن يوم أربعاء أذكره تمامأ، وكان في الثاني
والعشرين من صفر سنة 0 135. مز عليه ثلاث وخمسون سنة، ولا تزال
ذكراه ماثلة أمام عيني، كانه قد كان امس. . . وذهبنا، وكان أستاذ
الجراحة الدكتور نظمي القباني حاضراً، فأدخلها إلى غرفة العمليات رأساً
ووقفت أنتطر كما يقف المتهم أمام محكمة الجنايات ليسمع الحكم له
بالبراءة أو عليه بالموت. وطال وقوفي، وثقلت الدقائق عليئ حتى لأحسن
طقطقة الساعة الكبيرة على الجدار فوق رأسي كانها مطارق تنزل عليه،
إلى أن فُتح الباب وخرج الدكتور صبري يقول: لا بد من بتر الساق،
فاكتب هنا أنك موافق. ولم يدع لي وقتاً للتفكير لأن الأمر -كما قال -
لا يحتمل التاخير، فكتبت، وأخذ الورقة ودخل، ولبثت مثل المشدوه
أفكر كيف تدخل بساقين وتخرج بساق واحدة. وكبر عليئ الأمر، ونسيت
(1)
(2)
ا لذكر يا ت: 8/ 6 2.
ا لذكر يا ت: 2/ 4 2 1.
13