صغير، وأخاف أن تطغى بي الحماسة فأقول ما لا يناسب المقام، فإلى
أي مدى يسمج لي الموقف بالكلام؟ فضحك وقال: قل ما تشاء؟ فالمجال
أمامك فسيح. فألقيت خطبة من تلك الخطب النارية التي كان لها الأثر
الكبير في نفوس الناس، لا أذكر منها إلا جملة واحدة قلت فيها:
"لا تخافوا الفرنسيين فإن افئدتهم هواء، وبطولتهم ادعاء. إن نارهم
لا تحرق ورصاصهم لا يقتل، ولو كان فيهم خير ما وطئت عاصهخهم
نعالُ الألمان ". وكنت احسب أن الناس في الدير مثل إخوانهم في دمشق
يخرجون بالمظاهرات يصيحون فيها ويهتفون، ولم أكن اعلم أنهم مثل
أهل بغداد؟ مظاهراتهم إعصار فيه نار، وزلازل تدمر، وبراكين تنفجر.
خرج الناس من المسجد يريدون أن يصلوا إلى الفرنسيين فيحطموهم،
وجاء الشرطة والجند ليمسكوا بي لأن المستشار (الكولونيل العسكري)
أمر بالقبض عليئ، ولكن هذه الأمواج من الناس الثائرين حالوا بيني وبينهم
فقنعوا من ا لغنيمة با لإياب. . .
وبعد ايام من وصولي دمشق استدعاني وزير المعارف، ودخلت
عليه فاستقبلني مرحبأ واَنسني بالكلام، ثم قال لي: كأن هواء دير الزور لم
يوافقك، فهل تحب أن تستريج ايامأ؟ فقلت في نفسي: اتجاهل لأعرف
ما الذي يريده فقلت: لا، إن هواء دير الزور وافقني جداَ وصحتي بحمد
الله صحة حسنة. قال: ارى أن تستريج اياماَ بعد هذا السفر الطويل. قلت:
لاياسيدي؟ لااحتاج إلى راحة وسأرجع في نهاية العطلة النصفية. فقال وقد
نزع عن وجهه القناع: بلا كلام فارغ. . . ما بدهم إياك (اي ان المستشار
الفرنسي (1) يرفض عودتي إلى الدير، فكان ذلك خيراً أراده الله لي).
قلت: كيف ابقى هنا بلا عمل؟ قال: نمنحك إجازة مرضية. قلت:
(1)
وكان هو الوزير الفعلي كما نقرأ في مواضع أخرى من الذكريات، اما الوزير
الرسمي فصورة بلا فعل ومنصب بلا سلطان.
21