{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ} إلى الناس {وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ} اسم جنس؛ أريد به التوراة والإنجيل، والزبور، والقرآن؛ وهي في ذرية إبراهيم وحده {فَمِنْهُمْ} أي من المرسل إليهم {مُّهْتَدٍ} إلى طريق الحق، مؤمن ب الله ورسله {وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} كافرون
{ثُمَّ قَفَّيْنَا} أتبعنا {عَلَى آثَارِهِم} أي على آثار نوح وإبراهيم ومن أرسلا إليهم {وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ} أي اتبعوا عيسى وآمنوا به، وكانوا على شرعته ومنهاجه {رَأْفَةً وَرَحْمَةً} وهما صفتان يمن الله تعالى بهما على من ارتضى من عباده، وجعله أهلاً لكرامته وجنته {وَرَهْبَانِيَّةً ابتَدَعُوهَا} أي اخترعوها؛ وهي أنهم كانوا يهجرون النساء، وكثيراً من المطاعم والملابس؛ بقصد التجرد من الملذات والشهوات، والتفرغ للعبادة {مَا كَتَبْنَاهَا} ما فرضناها {عَلَيْهِمْ} ولم يفعلوها {إِلاَّ ابْتِغَآءَ رِضْوَانِ اللَّهِ} قاصدين بها وجهه الكريم؛ لكن من أتى بعدهم، وأراد السير على نهجهم: انتظم في سلك الرهبانية؛ قاصداً بذلك الصوالح الدنيوية؛ لذلك وصفهم الله تعالى بقوله: {فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} كالذين سبقوهم إليها، وفرضوها على أنفسهم؛ ابتغاء ثواب الله تعالى
{يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ} خافوه واخشوا غضبه وعقابه {وَآمِنُواْ بِرَسُولِهِ}
أي اثبتوا على إيمانكم به {يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ} نصيبين {مِن رَّحْمَتِهِ} والمراد بالكفلين: كثرة الثواب، وعظم الأجر {وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ} المراد بالنور هنا: العقل؛ لأنه كالنور الذي يهتدى به: يرى الإنسان به الصواب فيتبعه، والخطأ فيجتنبه؛ كما أن النور يتجنب به الإنسان المهاوي والمزالق والمهالك {وَيَغْفِرْ لَكُمْ} ذنوبكم {وَاللَّهُ غَفُورٌ} كثير المغفرة لمن تاب {رَّحِيمٌ} بعباده؛ أرحم بهم من أمهاتهم
{لِّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّن فَضْلِ اللَّهِ} أي خشية أن يعلم أهل الكتاب أنهم لا يقدرون على نيل شيء من فضل الله - لو أسلموا - مثل ما نلتموه أنتم بإسلامكم، واستوجبتموه، بتقواكم وإيمانكم {وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ} كلام مستأنف؛ أي اعلموا أيها المخاطبون أن الفضل بيد الله، لا بيد غيره؛ ولا طريق لنيله إلا بالتزام الطاعة، واجتناب المعصية، وتحري مرضاته تعالى {يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} وقيل: الضمير في {أَلاَّ يَقْدِرُونَ} للذين آمنوا: الذين منحهم الله تعالى رفده
-[671]- وفضله؛ وآتاهم كفلين من رحمته، وجعل لهم نوراً يمشون به في الدنيا والآخرة، وغفر لهم ذنوبهم، وآتاهم تقواهم و «لئلا يعلم» أي ليعلم، و «لا» زائدة، ويؤيد ذلك: قراءة من قرأ «ليعلم» و «لكي يعلم» وما قلناه أولاً هو أقرب إلى الصواب، وأجدر بالتفهم؛ ولم يسبقنا أحد إليه.