كتاب أمراض القلوب وشفاؤها

وكما أَن المرضى الْجُهَّال قد يتناولون مَا يشتهون فَلَا يحتمون وَلَا يصبرون على الْأَدْوِيَة الكريهة لما فِي ذَلِك من تَعْجِيل نوع من الرَّاحَة واللذة وَلَكِن ذَلِك يعقبهم من الآلام مَا يعظم قدره أَو يعجل الْهَلَاك فَكَذَلِك بَنو آدم هم جهال ظلمُوا أنفسهم يستعجل أحدهم مَا ترغبه لذته وَيتْرك مَا تكرههُ نَفسه مِمَّا هُوَ لَا يصلح لَهُ فيعقبهم ذَلِك من الْأَلَم والعقوبات إِمَّا فِي الدُّنْيَا وَإِمَّا فِي الْآخِرَة مَا فِيهِ عظم الْعَذَاب والهلاك الْأَعْظَم وَالتَّقوى هِيَ الاحتماء عَمَّا يضرّهُ بِفعل مَا يَنْفَعهُ فَإِن الاحتماء عَن الضار يسْتَلْزم اسْتِعْمَال النافع وَأما اسْتِعْمَال النافع فقد يكون مَعَه أَيْضا اسْتِعْمَال الضار فَلَا يكون صَاحبه من الْمُتَّقِينَ وَأما ترك اسْتِعْمَال الضار والنافع فَهَذَا لَا يكون فَإِن العَبْد إِذا عجز عَن تنَاول الْغذَاء كَانَ مغتذيا بِمَا مَعَه من الْموَاد الَّتِي تضره حَتَّى يهْلك وَلِهَذَا كَانَت الْعَاقِبَة للتقوى وللمتقين لأَنهم المحتمون عَمَّا يضرهم فعاقبتهم الْإِسْلَام والكرامة وَإِن وجدوا ألما فِي الِابْتِدَاء لتناول الدَّوَاء والإحتماء كَفعل الْأَعْمَال الصَّالِحَة الْمَكْرُوهَة كَمَا قَالَ تَعَالَى الْبَقَرَة كتب عَلَيْكُم الْقِتَال وَهُوَ كره لكم وَعَسَى أَن تكْرهُوا شَيْئا وَهُوَ خير لكم وَعَسَى أَن تحبوا شَيْئا وَهُوَ شَرّ لكم ولكثرة الْأَعْمَال الْبَاطِلَة المشتهاة قَالَ تَعَالَى النازعات وَأما من خَافَ مقَام ربه وَنهى النَّفس عَن الْهوى فَإِن الْجنَّة هِيَ المأوى وكما قَالَ الانفال وتودون أَن غير ذَات الشَّوْكَة تكون لكم فَأَما من لم يحتم فَإِن ذَلِك سَبَب لضرره فِي الْعَاقِبَة وَمن تنَاول مَا يَنْفَعهُ مَعَ يسير من التَّخْلِيط فَهُوَ أصلح مِمَّن احتمى حمية كَامِلَة وَلم يتَنَاوَل إِلَّا شَيْئا يَسِيرا فَإِن الحمية التَّامَّة بِلَا اغتذاء تمرض فَهَكَذَا من ترك السَّيِّئَات وَلم يفعل الْحَسَنَات وَقد قدمنَا فِي قَاعِدَة كَبِيرَة أَن جنس الْحَسَنَات أَنْفَع من جنس ترك السَّيِّئَات كَمَا أَن جنس الاغتذاء من جنس الاحتماء وَبينا أَن هَذَا مَقْصُود لنَفسِهِ وَذَلِكَ مَقْصُود لغيره بالانضمام إِلَى غَيره وكما أَن الْوَاجِب الاحتماء عَن سَبَب الْمَرَض قبل حُصُوله وإزالته بعد حُصُوله فَهَكَذَا أمراض الْقلب يحْتَاج فِيهَا إِلَى حفظ الصِّحَّة ابْتِدَاء وَإِلَى إِعَادَتهَا إِن عرض لَهُ الْمَرَض دواما وَالصِّحَّة تحفظ بِالْمثلِ وَالْمَرَض يَزُول بالضد فصحة الْقلب تحفظ بِاسْتِعْمَال أَمْثَال مَا فِيهَا وَهُوَ مَا يقوى الْعلم والايمان من الذّكر والتفكر والعبادات الْمَشْرُوعَة وتزول بالضد فتزال الشُّبُهَات بِالْبَيِّنَاتِ وتزال محبَّة الْبَاطِل ببغضه ومحبة الْحق وَلِهَذَا قَالَ يحيى بن عمار الْعُلُوم خَمْسَة فَعلم هُوَ حَيَاة الدّين وَهُوَ علم التَّوْحِيد وَعلم هُوَ غذَاء الدّين وَهُوَ علم التَّذَكُّر بمعاني الْقُرْآن

الصفحة 31