كتاب أمراض القلوب وشفاؤها

فالرب سُبْحَانَهُ لَهُ نصف الثَّنَاء وَالْخَيْر وَالْعَبْد لَهُ نصف الدُّعَاء والطلب وَهَاتَانِ جامعتان مَا للرب سُبْحَانَهُ وَمَا للْعَبد فإياك نعْبد للرب وَإِيَّاك نستعين للْعَبد وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن معَاذ رَضِي الله عَنهُ قَالَ كنت رديفا للنَّبِي (صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) على حمَار فَقَالَ يَا معَاذ أَتَدْرِي مَا حق الله على الْعباد قلت الله وَرَسُوله اعْلَم قَالَ حق الله على الْعباد أَن يعبدوه وَلَا يشركوا بِهِ شَيْئا وَحقّ الْعباد على الله أَن لَا يعذب من لَا يُشْرك بِهِ وَالْعِبَادَة هِيَ الْغَايَة الَّتِي خلق الله لَهَا الْعباد من جِهَة أَمر الله ومحبته وَرضَاهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى الذاريات وَمَا خلقت الْجِنّ وَالْإِنْس إِلَّا ليعبدون وَبهَا أرسل الرُّسُل وَأنزل الْكتب وَهِي اسْم يجمع كَمَال الذل ونهايته وَكَمَال الْحبّ لله ونهايته فالحب الخلي عَن ذل والذل الخلي عَن حب لَا يكون عبَادَة وَإِنَّمَا الْعِبَادَة مَا يجمع كَمَال الْأَمريْنِ وَلِهَذَا كَانَت الْعِبَادَة لَا تصلح إِلَّا لله وَهِي وَإِن كَانَت مَنْفَعَتهَا للْعَبد وَالله غَنِي عَنْهَا فَهِيَ لَهُ من جِهَة محبته لَهَا وَرضَاهُ بهَا وَلِهَذَا كَانَ الله أَشد فَرحا بتوبة العَبْد من الفاقد لراحلته عَلَيْهَا طَعَامه وَشَرَابه فِي ارْض دوية ملهكة إِذا نَام آيسا مِنْهَا ثمَّ اسْتَيْقَظَ فَوَجَدَهَا فَالله أَشد فَرحا بتوبة عَبده من هَذَا براحلته وَهَذَا يتَعَلَّق بِهِ أُمُور جليلة قد بسطناها وشرحناها فِي غير هَذَا الْموضع والتوكل والاستعانة للْعَبد لِأَنَّهُ هُوَ الْوَسِيلَة وَالطَّرِيق الَّذِي ينَال بِهِ مَقْصُوده ومطلوبه من الْعِبَادَة فالاستعانة كالدعاء وَالْمَسْأَلَة وَقد روى الطَّبَرَانِيّ فِي كتاب الدُّعَاء عَن النَّبِي (صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) قَالَ يَقُول الله يَا ابْن آدم إِنَّمَا هِيَ ارْبَعْ وَاحِدَة لي وَوَاحِدَة لَك وَوَاحِدَة بيني وَبَيْنك وَوَاحِدَة بَيْنك وَبَين خلقي فَأَما الَّتِي لي فتعبدني لَا تشرك بِي شَيْئا وَأما الَّتِي هِيَ لَك فعملك أجازيك بِهِ أحْوج مَا تكون إِلَيْهِ وَأما الَّتِي بيني وَبَيْنك فمنك الدُّعَاء وعَلى الاجابة وَأما الَّتِي بَيْنك وَبَين خلقي فأت للنَّاس مَا تحب أَن يَأْتُوا إِلَيْك وَكَون هَذَا لله وَهَذَا للْعَبد هُوَ اعْتِبَار تعلق الْمحبَّة والرضاء ابْتِدَاء فَإِن العَبْد ابْتِدَاء يحب وَيُرِيد مَا يرَاهُ ملائما لَهُ وَالله تَعَالَى يحب ويرضى مَا هُوَ الْغَايَة الْمَقْصُودَة فِي رِضَاهُ وحبه الْوَسِيلَة تبعا لذَلِك وَإِلَّا فَكل مَأْمُور بِهِ فمنفعته عَائِدَة على العَبْد وكل ذَلِك يُحِبهُ الله ويرضاه وعَلى هَذَا فَالَّذِي ظن أَن التَّوَكُّل من المقامات الْعَامَّة ظن أَن التَّوَكُّل لَا يطْلب بِهِ إِلَّا حظوظ الدُّنْيَا وَهُوَ غلط بل التَّوَكُّل فِي الْأُمُور الدِّينِيَّة أعظم وَأَيْضًا التَّوَكُّل فِي الْأُمُور الدِّينِيَّة الَّتِي لَا تتمّ الْوَاجِبَات والمستحبات إِلَّا بهَا والزاهد فِيهَا زاهد فِيمَا يُحِبهُ الله وَيَأْمُر بِهِ ويرضاه والزهد الْمَشْرُوع هُوَ ترك الرَّغْبَة فِيمَا لَا ينفع فِي الدَّار الْآخِرَة وَهُوَ فضول الْمُبَاح الَّتِي لَا يستعان بهَا على طَاعَة الله كَمَا أَن الْوَرع الْمَشْرُوع هُوَ ترك مَا قد يضر فِي الدَّار الْآخِرَة وَهُوَ ترك الْمُحرمَات

الصفحة 44