كتاب أمراض القلوب وشفاؤها

مَا كُنْتُم تَعْبدُونَ أَنْتُم وآباؤكم الأقدمون فَإِنَّهُم عَدو لي إِلَّا رب الْعَالمين وَقَالَ أَيْضا الْأَنْعَام لَا احب الآفلين وَقَالَ تَعَالَى الشُّعَرَاء يَوْم لَا ينفع مَال وَلَا بنُون إِلَّا من أَتَى الله بقلب سليم وَهُوَ السَّلِيم من الشّرك وَأما قَوْلهم إِنَّه لَا مُنَاسبَة بَين الْمُحدث وَالْقَدِيم توجب محبته لَهُ وتمتعه بِالنّظرِ إِلَيْهِ فَهَذَا الْكَلَام مُجمل فَإِن ارادوا بالمناسبة أَنه لَيْسَ بوالد فَهَذَا حق وَإِن أَرَادوا أَنه لَيْسَ بَينهمَا من الْمُنَاسبَة مَا بَين الناكح والمنكوح والآكل والمأكول وَنَحْو ذَلِك فَهَذَا أَيْضا حق وَإِن أَرَادوا أَنه لَا مُنَاسبَة بَينهمَا توجب أَن يكون أَحدهمَا محبا عابدا والاخر معبودا محبوبا فَهَذَا هُوَ رَأس الْمَسْأَلَة والاحتجاج بِهِ مصادرة على الْمَطْلُوب وَيَكْفِي فِي ذَلِك الْمَنْع ثمَّ يُقَال بل لَا مُنَاسبَة تَقْتَضِي الْمحبَّة الْكَامِلَة إِلَّا الْمُنَاسبَة الَّتِي بَين الْمَخْلُوق والخالق الَّذِي لَا إِلَه غَيره الَّذِي هُوَ فِي السَّمَاء إِلَه وَفِي الأَرْض إِلَه وَله الْمثل الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَات وَالْأَرْض وَحَقِيقَة قَول هَؤُلَاءِ أَنهم جَحَدُوا كَون الله معبودا فِي الْحَقِيقَة وَلِهَذَا وَافق على هَذِه الْمَسْأَلَة طوائف من الصُّوفِيَّة الْمُتَكَلِّمين الَّذين يُنكرُونَ أَن يكون الله محبا فِي الْحَقِيقَة فأقروا بِكَوْنِهِ محبوبا وَمنعُوا كَونه محبا لأَنهم تصوفوا مَعَ مَا كَانُوا عَلَيْهِ من قَول أُولَئِكَ المتكلمة فَأخذُوا عَن الصُّوفِيَّة مَذْهَبهم فِي الْمحبَّة وَإِن كَانُوا قد يخلطون فِيهِ وأصل إنكارها إِنَّمَا هُوَ قَول الْمُعْتَزلَة وَنَحْوهم من الْجَهْمِية فَأَما محبَّة الرب عَبده فهم لَهَا أَشد إنكارا ومنكروها قِسْمَانِ قسم يتأولونها بِنَفس المفعولات الَّتِي يُحِبهَا العَبْد فيجعلون محبته نفس خلقه وَقسم يجعلونها نفس إِرَادَته لتِلْك المفعولات وَقد بسطنا الْكَلَام فِي ذَلِك فِي قَوَاعِد الصِّفَات وَالْقدر وَلَيْسَ هَذَا هُوَ موضعهَا وَمن الْمَعْلُوم أَنه قد دلّ الْكتاب وَالسّنة واتفاق سلف الْأمة على أَن الله يحب ويرضى مَا أَمر بِفِعْلِهِ من وَاجِب ومستحب وَإِن لم يكن ذَلِك مَوْجُودا وعَلى أَنه قد يُرِيد وجود أُمُور يبغضها ويسخطها من الْأَعْيَان وَالْأَفْعَال كالفسق وَالْكفْر وَقد قَالَ الله تَعَالَى الْبَقَرَة وَالله لَا يحب الْفساد وَقَالَ تَعَالَى الزمر وَلَا يرضى لِعِبَادِهِ الْكفْر وَالْمَقْصُود هُنَا إِنَّمَا هُوَ فِي ذكر محبَّة الْعباد لله وَقد تبين أَن ذَلِك هُوَ أصل أَعمال الْإِيمَان وَلم يتَبَيَّن بَين أحد من سلف الْأمة من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ لَهُم بِإِحْسَان نزاع فِي ذَلِك وَكَانُوا يحركون هَذِه الْمحبَّة بِمَا شرع الله أَن تحرّك بِهِ من أَنْوَاع الْعِبَادَات الشَّرْعِيَّة كالعرفان الإيماني وَالسَّمَاع الفرقاني قَالَ تَعَالَى الشورى وَكَذَلِكَ أَوْحَينَا إِلَيْك روحا من أمرنَا مَا كنت تَدْرِي مَا الْكتاب وَلَا الْإِيمَان إِلَى آخر السُّورَة ثمَّ أَنه لما طَال الأمد صَار فِي طائف المتكلمة من الْمُعْتَزلَة وَغَيرهم من يُنكر هَذِه الْمحبَّة وَصَارَ فِي بعض المتصوفة من يطْلب تحريكها بأنواع من سَماع

الصفحة 72