كتاب الرد على من ينكر حجية السنة

اِئْتَمَنْتُهُ وَوَثِقْتُ بِهِ وَلَمْ يَكُنْ كَمَا حَدَّثَنِي. فَأَكُونُ قَدْ تَقَلَّدْتُ ذَلِكَ» (*). وقوله في الرواية الأخرى: «إِنِّي حَدَّثْتُكُمْ الحَدِيثَ وَلاَ أَدْرِي لَعَلِّي لَمْ أَسْمَعْهُ حَرْفًا حَرْفًا».

وثانيهما: أنه من المعلوم أن الواحد منهم أو الاثنين أو العشرة أو المائة لا يمكنهم أن يجمعوا كل ما صدر عن النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في كتاب واحد. كما حصل في القرآن. لأنه لا يوجد أحد منهم قد لازم النبي ملازمة تامة في جميع لحظات رسالته. ولو فرض ذلك فلا يمكنه أن يقوم بحفظ كل ما صدر منه واستذكاره وتدوينه. ولا يمكن اَيْضًا أن يجتمع عدد معين منهم قد وزعوا زمنه - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عليهم وتقاسموه وتناوبوا ملازمته حتى لا يخرج عن حفظهم شيء مما صدر منه. ولقد تكون صحبة الواحد منهم له - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ساعة واحدة ويكون منفردًا فيها ويصدر منه في هذه الساعة ما لم يطلع عليه غيره أصلاً. ولذلك وجب القول بأن كل فرد من الصحابة يحتمل أنه قد حمل شيئًا من السُنَّةِ لم يحمله غيره. ولا يمكن لأحد مهما أوتي من السلطان أن يجمع جميع الصحابة (وهم ألوف) (¬1) بعد وفاته - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ويأخذ منهم جميع ما حملوه وَيُدَوِّنُهُ.

فلما رأوا أنهم غير قادرين على هذا امتنعوا عن التدوين وأحرقوا ما دونوا، مخافة
¬__________
(¬1) قال في " تدريب الراوي ": ص 206: قَالَ أَبُو زُرْعَةَ الرَّازِيُّ فِي جَوَابِ مَنْ قَالَ لَهُ: أَلَيْسَ يُقَالُ حَدِيثُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعَةُ آلاَفِ حَدِيثٍ؟
[قَالَ]: وَمَنْ قَالَ ذَا، قَلْقَلَ اللَّهُ أَنْيَابَهُ، هَذَا قَوْلُ الزَّنَادِقَةِ، وَمَنْ يُحْصِي حَدِيثَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟، (قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ مِائَةِ أَلْفٍ وَأَرْبَعَةَ عَشَرَ أَلْفًا مِنَ الصَّحَابَةِ مِمَّنْ رَوَى عَنْهُ وَسَمِعَ مِنْهُ) فَقِيلَ لَهُ: هَؤُلاَءِ أَيْنَ كَانُوا وَأَيْنَ سَمِعُوا؟ قَالَ: أَهْلُ الْمَدِينَةِ، وَأَهْلُ مَكَّةَ، وَمَنْ بَيْنَهُمَا، وَالأَعْرَابُ، وَمَنْ شَهِدَ مَعَهُ حَجَّةَ الوَدَاعِ، كُلٌّ رَآهُ وَسَمِعَ مِنْهُ بِعَرَفَةَ ...
قَالَ الْعِرَاقِيُّ: وَقَرِيبٌ مِنْهُ مَا أَسْنَدَهُ الْمَدِينِيُّ عَنْهُ قَالَ: تُوُفِّيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ رَآهُ وَسَمِعَ مِنْهُ زِيَادَةٌ عَلَى مِائَةِ أَلْفِ إِنْسَانٍ مِنْ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ، وَهَذَا لاَ تَحْدِيدَ فِيهِ، وَكَيْفَ يُمْكِنُ الاطِّلاَعُ عَلَى تَحْرِيرِ ذَلِكَ مَعَ تَفَرُّقِ الصَّحَابَةِ فِي البُلْدَانِ وَالبَوَادِي وَالقُرَى، وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي " صَحِيحِهِ " أَنَّ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ فِي قِصَّةِ تَخَلُّفِهِ عَنْ تَبُوكَ: وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَثِيرٌ لاَ يَجْمَعُهُمْ كِتَابٌ حَافِظٌ، يَعْنِي الدِّيوَانَ.
قَالَ الْعِرَاقِيُّ: رَوَى السَّاجِيُّ فِي الْمَنَاقِبِ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ عَنِ الشَّافِعِيِّ قَالَ: قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمُونَ سِتُّونَ أَلْفًا، ثَلاَثُونَ أَلْفًا بِالْمَدِينَةِ، وَثَلاَثُونَ أَلْفًا فِي قَبَائِلِ الْعَرَبِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ.
قَالَ: وَمَعَ هَذَا فَجَمِيعُ مَنْ صَنَّفَ فِي الصَّحَابَةِ لَمْ يَبْلُغْ مَجْمُوعُ مَا فِي تَصَانِيفِهِمْ عَشْرَةَ آلاَفٍ، مَعَ كَوْنِهِمْ يَذْكُرُونَ مَنْ تُوُفِّيَ فِي حَيَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ عَاصَرَهُ، أَوْ أَدْرَكَهُ صَغِيرًا. اهـ.

---------------------
[تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]:
(*) قارن بما ورد حول أحراق أبي بكر ما دَوَّنَهُ، ما ذكر في صفحة 407 من هذا الكتاب.

الصفحة 472