كتاب مختصر الفتاوى المصرية

وَأما مَا ذكره الْحَكِيم التِّرْمِذِيّ فِي أَصْنَاف الرَّحْمَة فَلَا ريب أَن الرَّحْمَة أَصْنَاف متنوعة كَمَا ذكره وَلَيْسَ فِي الحَدِيث رَحْمَة من عنْدك وَإِنَّمَا فِيهِ فَاغْفِر لي مغْفرَة من عنْدك وَلَكِن مَقْصُوده أَن يشبه هَذِه بقوله وهب لنا من لَدُنْك رَحْمَة وَقد جعل هَذِه الْمَغْفِرَة من عِنْده سُبْحَانَهُ مغْفرَة مَخْصُوصَة لَيست مِمَّا يبْذل للعامة كَمَا أَن الرَّحْمَة الخصوصة لَيست مِمَّا يبْذل للعامة
وَهَذَا الككلام فِي بعضه نظر وَهُوَ كَغَيْرِهِ من المصنفين فِي كَلَامه مَرْدُود ومقبول فَلَيْسَ فِي قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مغْفرَة من عنْدك وَلَكِن فِي قَول الراسخين هَب لنا من لَدُنْك رَحْمَة وَنَحْو ذَلِك لَا يَقْتَضِي اخْتِصَاص هَذَا الشَّخْص دون غَيره وَإِلَّا لما سَاغَ لغيره أَن يَدْعُو بِهَذَا الدُّعَاء وَهُوَ خلاف الاجماع أَو تَفْسِير اللَّفْظ بِمَا لَا يدل عَلَيْهِ
وَقد قَالَ زَكَرِيَّا هَب لي من لَدُنْك ذُرِّيَّة طيبَة وَلم تكن الذُّرِّيَّة مُخْتَصَّة بِهِ وَلَا بالأنبياء بل الله يخرج الْأَنْبِيَاء من الْكفَّار إِذا شَاءَ وَلَكِن بمشيئته وَالله أعلم أَنه إِذا قَالَ من عنْدك وَمن لَدُنْك كَانَ مَطْلُوبا بِغَيْر فعل العَبْد
فَإِن مَا يُعْطِيهِ الله العَبْد على وَجْهَيْن مِنْهُ مَا يكون بِسَبَب فعله كالرزق الَّذِي يرزقه الله بِكَسْبِهِ والسيئات الَّتِي يغفرها الله بِالْحَسَنَاتِ الماحية وَالْولد الَّذِي يُعْطِيهِ الله بِالنِّكَاحِ الْمُعْتَاد وَالْعلم الَّذِي يَنَالهُ بالتعلم
وَمِنْه مَا يُعْطِيهِ للْعَبد ولايحوجه إِلَى السَّبَب الَّذِي ينَال بِهِ فِي غَالب الْأُمُور كَمَا أعْطى زَكَرِيَّا الْوَلَد مَعَ أَن امْرَأَته كَانَت عاقرا وَقد بلغ هُوَ من الْكبر عتيا فَهَذَا وهبه لَهُ الله من لَدنه لَيْسَ بالاأسباب الْمُعْتَادَة وَكَذَلِكَ الَّذِي علمه الْخضر من لَدنه لميكن بالتعلم الْمَعْهُود وَكَذَلِكَ الرَّحْمَة الْمَوْهُوبَة وَلِهَذَا قَالَ إِنَّك أَنْت الْوَهَّاب وَقَوله مغْفرَة من عنْدك لم يقل فِيهِ من لَدُنْك بل من عنْدك وَمن النَّاس من يفرق بَين لَدُنْك وعندك كَمَا يفرق بَين التَّقْدِيم

الصفحة 114