كتاب زهرة التفاسير (اسم الجزء: 3)

فهذه الآية الكريمة إنذار للمشركين بأن الهزيمة ستلحقهم في الدنيا، وأن العذاب سيستقبلهم في الآخرة. وقد أمر الله سبحانه نبيه بأن يواجههم بهذا الخطاب، ولم يوجهه سبحانه وتعالى إليهم، لأن أولئك المغترين المفتخرين كانوا يدلّون بقوتهم على النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويعتزون بها في مخاطبته - صلى الله عليه وسلم -، فكانوا يقولون له: (نَحْنُ أَكثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ). وكانوا يأخذون من عزتهم في الدنيا دليلا على عزتهم في الآخرة، فكان حالهم كحال هذا العامل الذي حكى الله سبحانه عنه بقوله: (وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا (35) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا (36).
وهكذا الطبيعة الإنسانية إن استغنت طغت في حاضرها، وغرها الغرور في قابلها: (كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7).
وإذا كانوا يجابهون النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك فإنه يكون من المناسب أن يتولى هو الرد، وهو الذي جُرِّدَ من المال والولد، ولا ناصر له إلا الله سبحانه وتعالى.
وإن ذلك الاغترار كان من المشركين واليهود الذين كانوا يجاورون النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة، وقد جابهوا النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك عندما دعاهم إلى الإسلام بعد واقعة بدر التي انتصر فيها المسلمون، فإنه يروى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جمعهم في سوق بني قينقاع، وقال لهم: " يا معشر اليهود، احذروا مثل ما نزل بقريش، وأسلموا قبل أن ينزل بكم ما نزل بهم، فقد عرفتم أني نبي مرسل ". فقالوا: لَا يغرنك أنك لقيت أقواما أغمارا لَا يعرفون القتال، إنك والله لو قاتلتنا لعرفت أننا نحن الناس، وأنك لم تلق مثلنا (¬1).
وإذا كان الاغترار من الفريقين فإنه يصح أن نقول إن الخطاب للكفار جميعا الذين يغترون مثل هذا الغرور، وخصوصا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بأن يخاطب بهذا الذين كفروا، سواء أكانوا من هؤلاء أم كانوا من أولئك، وإن الكفر بالحقائق
¬________
(¬1) رواه أبو داود: الخراج والإمارة والفيء - كيف كان إخراج اليهود من المدينة (2607).

الصفحة 1125